مقدمة د. سليمان العطار لرواية مئة عام من العزلة

لقد قمت بترجمة هذا العمل الروائي الفذ منذ سنوات طويلة (1979-1980)، وأذكر كيف أسرتني هذه الرواية بشكل فريد، إذ لم يحدث لي أن شعرت بهذه المشاعر المكثفة والتي تضيء بداخلي إلي حد الإحساس باحتراق كثير من الأعمال القصصية والشعرية السابقة عليها مثل زيت يمد تلك المشاعر بالوقود لتزداد كثافة و" انضياء" . دفعني هذا لدراسة الرواية بعد الانتهاء من ترجمتها، وقد أستغرق ذلك مني وقتاً لا يقل عن الزمن الذي احتجته للقيام بالترجمة: أكثر من عام ! لم يكتب لهذه الدراسة حفظ من النشر كما كتب للرواية التي بقيت في دار النشر أكثر م عام في انتظار دورها، وعندما حان موعد النشر لم تنشر لأن أحد عمال الطباعة أفزعته انتظار بعض العبارات فتوقف ليعرض الأمر علي رؤسائه، ويظل الأمر محل الأخذ والرد حتي بلغني – وقد كنت سافرت في مهمة رسمية طويلة إلي سانتياجو تشيلي – أنه قد تم نشر الرواية المترجمة كتكريم لمؤلفها اللامع لحصوله علي جائزة نوبل، نشرت الترجمة بسرعة وفي حالة عدم وجودي فانتشرت بصفحاتها الأخطاء والجمل الساقطة، ومع ذلك لقيت الترجمة نجاحاً منقطع النظير، باختصار لأن العمل فذ وغير مسبوق بين كتاب العالم الثالث، ثم إنه من أهم الأعمال الروائية – الأن – علي مستوي العالم، وعلي مدي تاريخ الرواية الذي ينحدر في الزمان الفائت إلي أعوام تكاد تغلق باب القرن الرابع المنقضي منذ ميلاد هذا النوع الأدبي[1]. ثم اخيراً لأني مترجم انتقلت إلي من الرواية آفة الإبداع.

مؤلف هذه الرواية " جابرييل غارثيا ماركيز " ينتمي إلي جمهورية كولومبيا الواقعة في أكثر مناطق الامريكيتين غرقاً في مستنقعات الطبيعة (والحروب والسياسة والفساد والفقر وانتهاب الثروات وممارسة الاسطورة) إمعاناً في الاستنقاع. وعندما نشرت هذه الرواية في عام 1967 وزعت مائة ألف نسخة في عامها الأول في أمريكا الجنوبية: رقم لم يبلغه عمل روائي هناك من قبل. كانت ترجمة هذه الروية إلي العربية أخر ترجماتها اللانهائية – تقريباً – لكل اللغات الحية التي يضج كوكبنا اليوم بالمتحدثين بها، واليوم وأنا أقدم هذه الطبعة الجديدة فكرت في التقديم لها بتلك الدراسة التي أشرت إليها منذ قليل، ولكن الدراسات مرسومة بلغة مائة عام من العزلة التي أصيبت بها أسرة "بودين ديا" التي تؤرخ لها الرواية.

لقد أدركت أن التقديم والأكاديمي للأعمال العظيمة يفسدها وبشكل عدوانياً حقيقاً، عي قارئها، لأن التقديم بمثل هذه الدراسة المعمقة لمثل هذا العمل الفريد يفرض علي القارئ طريقة واحدية الوجه لقراءة عمل له ألف طريقة لكل منها أعلف وجه للقراءة، أولاً العمل ثم الدراسة، فهل تنشر الرواية مذيلة بالدراسة ؟ الإجابة لا، لا تعقيب علي مثل هذا العمل إلا في قاعات الدرس أو في أعمال مستقلة، لسبب واضح: أن القارئ عندما ينتهي من الرواية سيشعر بحاجته إعادة قراءتها، أو علي الأقل العودة لبعض صفحاتها ومشاهدها للاستزادة من المتعة.

المتعة ؟ من الأدب العظيم للمتعة أم ..؟ المتعة شيء يتجاوز التسلية أو العبرة، باختصار : المتعة أن نعيش في جو جمالي يخنق شباك الخداع والتنكر والتبعثر في الحياة الحقيقية والتعري والتعالق وراء رؤيتنا ومعاناتنا اليومية لتلك الحياة، ذلك الجو الجمالي الذي يخلو من التفلسف والادعاء والايديولوجية لحساب شيء تعجز كل أجهزة مؤسسة الثقافة عن الامساك به ماعدا جهاز الفن، وبصفه خاصة الأدب ثم بصفه أخص: الرواية ثم بصفه أبعد كم كل صيغ أفعل التفصيل حول الخصوصية: رواية مائة عام العزلة !

إن "جابرييل غارثيا ماركيز" في هذه الرواية يكسر كل ما تصوره النقاد من تطور للرواية، إنه يعود لطريقة السرج السريع المذهل السرعة. لا يكاد يتوقف إلا عند حوار عابر سريع لكي نلتقط أنفاسنا ونسافر في زمن ملعون فيزيقي لمدة مائة عام في رحلة تستغرق ساعات. نجري مع السرد في رواية تسير في خط: لها بداية ووسط (تشكل عقدة) ونهاية(حل للعقدة). طريقة قص تقليدية نجدها في مصر اليوم في الحدوتة وفي السيرة الشعبية، ثم في الرواية الاوروبية الكلاسيكية ابتداء بدون كيشوت وانتهاء – بشكل به قليل من التلاعب – بفوكنر وهيمنجواي أستاذي ماركيز حسبما يردد في اعترافاته.

إذا كان العمل كذلك: فلماذا أصيب المديح للرواية في أذن القارئ ؟ الحياة اليومية توقعنا في شباك الخداع والتعمية فلماذا لا تفعل رواية " مائة عام من العزلة" نفس الفعل !

إن الحياة والرواية توأمان. أحذر خداع الحياة وخداع رواية ! إن أحداث الرواية لا تسير في خط فيزيقي للزمان إلا من باب الخداع: فهل الرواية – مثل الحرب – خدعة ؟ نعم ! أحداث الرواية تنبثق في لحظات الموت التي نري الزمان يخترق الأفق نحو المجهول. إن الخط الذي يعترض الأفق خط يقوم علي النبوءة واختراق الغيب ورؤية الزمن الفيزيقي "بالجملة" وليس "بالقطاعي" يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام. إن هذه لرواية – دون خداع – هي رواية جمالية في الرواية، وأسطورية شكلت حياة الناس في أمريكا الوسطي.

إن لحظة إطلاق الرصاص علي محكوم علية بالإعدام من فصيلة تنفيذ الإعدام الاحتضار أو لحظة الموت المقدر بالرياح البدائية التي تهب من داخلنا المتفاني في السعي نحو الفناء، هي لحظة تعفي الراوي الكسول في الرواية من العمل لتتحول الشخصية الروائية إلي "راو" يغيب عن نفسه، فيحكي عنها بضمير الغائب. يصبح الراوي مجرد دليل يحملنا إلي لحظات "موت" تعددت أسبابه لكنه واحد. إن الموت أفق للرؤية الكلية لزمان تفتت باختراع الساعة وإحلال دقاتها محل زقزقة العصافير.

الراوي دليل يقودنا نحو الموت، لنري: أقصد " لنسرد" وبسرعة خاطفة حتي ننتهز هذه اللحظة الفاتكة القصيرة جداً. إن سرعة السرد تطارد الموت وتسبقه فتكسب الحياه " المارثون" ليعيش القارئ المنطقة المحرمة لما وراء الموت.

لم يعد زمن الرواية فيزيقيا لكنه لم يترك شيئاً من فيزيقيته بمعني ما للفيزيقية إن الأجيال تموت جيلاً بعد جيل، وكل جيل يموت نري ماضية ومستقبل الأجيال التالية في لحظة موته. ولكن الموت الجيلي يتلاشى في استمرارية مائة عام من العزلة لامرأتين خالدتين: أورسولا وبيلارتيرنيرا. يزيل المت جيلاً ويبقي الجيل الأول فاعلاً: الماضي يسيطر علي المستقبل. لكن الماضي سوف يموت يوماً ما وفي لحظة موته نري فناء "العالم" هل لصالح عالم جديداً أم أنه فناء نهائي ؟

هذا هو السؤال ! إن طرح هذا السؤال يجعل من العمل الروائي "مائة عام من العزلة" تراجيديا حقيقية، لكنها تراجيديا العالم الثالث، تراجيديا مليئة بالضحك لكنه ضحك كالبكاء. إن كمية السخرية في الرواية تميتنا من الضحك إلي حد البكاء. وخلال البكاء ندرك أن الحب، والحب وحده، هو الحل الذى يجعل الموت التراجيدي انتقاله حقيقة نحو " موت سعيد " يغص بالتعاسة : نحو اجابة ناقصة للســؤال والنقص كمال للتراجيديا .

قد نعجز عن اجابة كاملة للســؤال، ومع ذلك فالطبيعة لديها قوة خارقة مثل جواد جامح مدمر ينتظر الفارس لكن الفارس القى برأسه فوق جذع شجرة القسطل بفناء البيت الكبير وهو يتبول وقبل ان ينتهي من تبوله مات و يجمح الجواد الى حد الكسل مثل الراوي، الطبيعة تترك للنمل الأحمر احد اضعف مخلوقاتها مهمة القضاء على الإنسان العالم مثالي . لماذا النمل ؟ لأنه احد الكائنات القليلة المجيشة فى الطبيعة . كل شئ له نظامه وجيشه الا إنسان العالم الثالث الذى يحول احلامه الى اوهام بمساعدة المستعمر الذى حل محل العناية الإلهية حتى انه جيش الطبيعة ضد هذا الإنسان فأطاعته بنجييش اضعف مخلوقاتها . النهاية المحتومة المأساوية .

ان الفارس الذى مات واقفاً ( لم يدخر جهداً ) كان يتبول ليمد الطبيعة بالخصب كى تقضي عليه بناء على اوامر الإستعمار . الزمن الفيزيقي لم يعد زمن الطبيعة لكنه زمن قدر رسمه التخلف الموسوم بآفة عودة انسان العالم الثالث –بمساعدة الأجنبي – الى سيرته الأولى : طعاماً لدورة الكربون في الطبيعة .

إن آخــر مخلوقات " اســرة بوين ديا " ولد بذيل واكله النمل الأبيض ليختلط اخيــراً بتراب عقيم سرق المستعمرخصبه، بعد ان عجز افراد هذه الأسـرة عن تنمية هذا الخصب لقد ترجموا الخصب الى اسطورة واوراق بنكنوت وكلا الأمرين يتبخر تاركاً العقم

هل كان لى الحق فى ان اصب المديح للرواية ؟

اترك القارئ ليقرأ الرواية وليعلم امرين مهمين : اولهما ان زوجة " ماركيز " مصرية الأب وان عالم الرواية تقرأه امرأة وحيدة هى " ام " ماركيز قراءة مترجمة ليس الى اللغة العربية ولا الى اى لغة اخرى انما الى شخصيات واحداث قد عرفتها وعاشتها فى الواقع لقد افزعها ظهورها باسم سري لها فى رواية " تقرير من موت معلن " إلهــي ان العالم كله يعرف اسمي الذى اكرهه !هكذا تردد امه عند ظهورها فى احدى روايات ابنها .

ان ماركيز يشكل احداث روايته وشخصياتها بعد تجزئ احداث وشخصيات الواقع ويشكل من الجزئيات – بعد اعادة مزجها – شخصيات واحداث روايته هذه وغيرها من الروايات والقصص القصيرة شفرة تحلها امه تلقائياً .

الواقع يكتب الرواية لكن الكتابة فن لا يتحقق الا بتحقق الكاتب بكيفيات الكتابة , ان الأسطورة الأغريقية وحكاية آدم وحواء واحداث سفر التكوين ثم كل روايات امريكا اللاتينية فى العقدين : العشرينات والثلاثينات ثم فوكنر ..

هيمنجواى وعمالقة الرواية قبل 1967 يشكلون مزيجاً تقنياً بمزيج الشخصيات والأحداث الذى صنعه من واقعة " ماركيز " لتظهر رواية واقعية تتوازى مع التوراة وتتجاوز كل التقنيات الروائية وتسجل تاريخ امريكا الوسطى والكاريبي بشئ من الروح العربية التى مثلتها " بتراكوتيس " العشيقة التى كانت الوحيدة التى نحت من الطوفان لأنها تملك قلباً عربياً . ان اوصاف بتراكويتس تنطبق على مرسيدس زوجته ذات الأصل المصري – الأرميكي اللاتيني

ان هذه الواقعة تمت لنا بصلة هذا موضوع عظيم اترك للقارئ استكشافه واعده فى المستقبل القريب نشر دراستي عن الرواية وعن صلتها بنا ثم اخيراً عن رؤيتي للرواية العربية بين معالجتها للواقع واستفادتها من التقنية القصصية على مدى التاريخ بإختصار : اين نحن من عالم روائي انتج " مائة عام من العزلة "

هلى استطعت ان اقدم لهذا العمل ؟ ارجو ان تكون الإجابة : لا ! لكني اشعر اننى قمت بترجمة فعليه انتهزت معرفتي بالعلاقة الأمومية للغة العربية مع اللغة الأسبانية لتجنب – ما اراد الكاتب تجنبه – حسبما صرح – من فهاهة وخطابة وكلمات رنانة تفرض تراثاً اسبانياً على مستوى اللغة الرسمية – فى لغة القص الأمر الذى قد تجنبه سكان الكاريبي فى حياتهم بإستخدام الأمثولة ( اليجوريا ) لتوضيح كل شئ

" مائة عام من العزلة " امثولة تعيد تأليف " سفر التكوين لشعب " امريكا الوسطس " وربما " لنا " نحن ابناء " العالم الثالث "

اترك القارئ – بكل احرتام – ليقرأ عملاً يعد على اصابع اليد مع اعمال قليلة فى هذا القرن بل فى كل قرن رواية مائة عام من العزلة ما اقسى الرقم " مائة " بين ارقام الرواية " التى نصبت سيركاً من السحر " كانت المائة تنفك وتنعقد بعدد من " الأعداد " التى كانت تمشى على حبل مفرود ومعلق فى " سماء " ابتلعت " رميديوس الجميلة " اجمل اشخاص الرواية . الأعداد والأسماء وافعال " دورية الهدم والبناء " تلعب دورية متلاشية للعبة الكراسي الموسيقية .

والآن ياجمهور السيرك ! ياأيها الجمهور الباحث عن المتعة ! اليك واليك وحدك نقدم " مائة عام من العزلة " .....مائة عام وليس اقل وليس اكثر . ما اعظم ان نعيش " مائة عام " تضاف الى عمرنا لتحل محل " بضع ساعات " سنقرأ فيها الرواية لد نشرت الطبعة الأولى من هذه الرواية فى المكسيك منذ ربع قرن حدث فيه الكثير لكن كل ما حدث وسيحدث ستجده فى الصفحات التالية فلا بأس ان تكون هذه النشرة احتفالاً بمرور ربع قرن على صدور العمل الذى يجعل الناس تشير الى مؤلفه : هذا صاحب " مائة عام من العزلة " وانا سأشير اليك ايها القارئ العزيز : هذا " قارئ مائة عام من العزلة " فى عيدها الفضي







[1] صدرت أول رواية حديثة في 1604 (رواية دون كيخوتي لثربانتس)
أعلى