أميمة الخش - بين السماء والأرض.. قصة قصيرة

عندما يرنُّ جرس المنبِّه أمدُّ يدي لإسكاته وأنا أستردُّ صحوي ببطء شديد. لا تبلغه يدي. ألتفتُ بعينين نصف مغمضتين. أراه في زاوية الغرفة. أنهض مترنِّحة باتجاهه لأُسْكِتَ صياحه المزعج. أسمع صوت ارتطامه بأرض الغرفة!

أتمطَّى بكسل أمام المرآة وأنا أسترق النظر إلى صورتي المنعكسة عليها. يطالعني شعرٌ مهمل, ووجه شاحب هجرته النضارة. تبدو الصورة بعيدة! أقترب من المرآة أكثر. تبتعد الصورة... ثم تغيب.

أغتسل. أرتدي ثيابي بحركات رتيبة, ولوحة ذهني خالية تماماً من أي مشهد.

أفتح الباب وأقذف بنفسي إلى الشارع. تذكِّرني النسماتُ الباردة بالوقت, فأعرف أنني أودِّع الخريف. وعندما ينصبُّ نظري على أوراق الشارع البعيدة الشاحبة, وهي تسقط على الأرض واجفة مرتعشة, يعتريني وجومُ لحظة الوداع.

أشيح بوجهي, فتسقط ورقة على شعري, وتظل عالقة بين خصلاته. لا أكترث لها. أسير متثاقلة في الطريق الذي تعوَّدتُ أن أسلكه كل يوم إلى مقرِّ عملي. أنظر إلى امتداده أمامي. يبدو لي بلا نهاية. أبنيته المتناثرة على الطرفين ترنو من مسافة لا يتبيَّن بصري منها إلا بقعة ضبابية تحجب عنه رؤية ما عداها.

أحاول أن أعبَّ بعض النسمات، فأحس بوخز عميق في صدري. أبحث عن سترتي التي نسيت ارتداءها, فيطالعني قميص قطنيٌ رقيق يكشف عن جلد تغزوه قشعريرة.

إحساسٌ ما يشد رأسي إلى فوق. يلتصق نظري بقبَّة السماء الزرقاء الواطئة. يدخل ضياؤها إلى صدري فينفتح على الأفق. أمدُّ يدي إلى غيمة قريبة لها شكل نجمة. تلتصق بكفي. يسري في جسمي تيارٌ يلهب داخلي. أحسُّ بالتوقُّد وبنار جَوَّانية تغطيها ألف طبقة صقيع!

عندما أصل وجهتي أعرف من سؤال حارس الباب ومدقِّق الدوام أنني في موقف حرج. "تأخَّرتِ ساعة يا آنسة!" يأتيني صوتهما من غور سحيق. أنظر إلى معصمي أستطلع الوقت. لا أتبيَّن عقارب الساعة. لقد صغر حجمها فبانت كنقطة بيضاء على المعصم!

تلاحق خطواتي درجات الطابق. أراها تفرُّ مبتعدة. أحاول أن أمدَّ ساقي لأصل أولاها. تتعثر قدماي فأتَّكئ على طرف السلم توقِّياً السقوط. يتناهى إلى مسمعي صوت ضعيف: "استخدمي المصعد!" أرتجف وأطوِّح بيدي مستاءة. أهمس بصمت: "الغرفة الضيقة مرة أخرى؟!" يتراءى لي وجه أبي يشير إليَّ أو إلى أحد إخوتي بتنفيذ عقوبته على أعمالنا الصبيانية الطائشة ودخول الغرفة الضيقة المعتمة في البيت.

أتابع تسلُّق السُلَّم. أجهد في الركض خلف درجاته الفارَّة. "لماذا لا أصل؟ غرفتي في الطابق الثالث والمسافة لا تنتهي!"

عندما ألج الغرفة تستوقفني النظرات المستطلعة عن بعد. هناء, صديقتي, تجلس في طرف الغرفة. تشهق شهقة تصلني خافتة, وتتمتم بصوت أكاد لا أسمعه: "سراب! تبدين شاحبة... هل ألمَّ بك مكروه؟" أهزُّ رأسي نافية من غير كلام، وأسير باتجاه طاولتي. قبل أن أصلها بمسافة طويلة أصطدم بكتلة قاسية فأقع أرضاً. يهبُّ مَن في الغرفة لرفعي. تصلني أصواتهم الخافتة. أميِّز منها صوت الأستاذ خالد رئيس الديوان: "سلامتك آنسة سراب!" يحاول رفعي تشاركه بقية الزميلات. تندُّ عني آهة, ويخرج صوتي مكتوماً: "لا بأس يا جماعة... أنا بخير." أترنَّح وأنا أحاول الوقوف لأهبط فوق كرسيي المعهود.

تقول هناء بقلق: "استدعاكِ المدير العام!" أتمتم متسائلة: "لِمَ؟" يجيب الأستاذ خالد: "لا ندري. ترك خبراً كي توافيه فور حضوركِ." أستقيم واقفة, وأنا أضغط بكفي على رأسي المتعب. أحس بيد هناء تقودني إلى باب غرفة المدير. يتلقَّاني من بعيد بابتسامة تبدو باهتة. وبصوت ملهوف يقول: "السيارة جاهزة تحت. سيطرح عليك الرفاق بعض الأسئلة. كوني مستعدة."

في غرفة المسؤول تتناهى إلى سمعي جملتُه الغريبة المعهودة: "الحقيقة يا رفيقة!" أنتفض على وقعها. أصغي إلى صوت ينبعث من داخلي: "منذ عام, تقريباً, دعوتَني أيها السيد إلى مكتبك. حدَّثتني عن سلوكي الجيد في العمل, وأثنيتَ على مقدرتي وكفاءتي, ثم أبديتَ رغبتك الشديدة في تعاوني معكم. قدَّمتَ إليَّ، حتى قبل أن تسمع ردِّي, استماراتٍ طلبتَ مني تعبئتها. رفعتُ الاستمارات من أمامي وأعدتُها إليك. شكرتُك بتهذيب, واعتذرت متذرِّعة بمشاغلي الكثيرة التي تَصْرِفُني عن عمل منظم كهذا.

جاءني سؤالك الساخر: "ما الذي يشغلك يا آنسة سراب؟ هل تقومين بدراسات عن الثروة الاقتصادية المخبوءة داخل أراضينا؟!" قهقهتُ. ثم رددتُ بلهجة السخرية ذاتها: "بل أقوم بدراسة عن الثروة الإنسانية، المخبوءة في كهوفنا الداخلية، التي يرفض الناس أن يَدَعوها تطفو على السطح وترى النور!"

نظرتَ إليَّ بدهشة من يسمع أحجيةً يصعب عليه فهمُها, وكتمتَ غيظاً في صدرك فضحتْه عيناك اللتان كانتا آخر صورة أغلقتُ عليها باب غرفتك.

من يومها وأنا أتوقع كل ساعة ضغطاً جديداً. وقد هيَّأتُ نفسي لذلك. قلتُ في بادئ الأمر: "لتكن النتيجة فصلي من العمل!"

بعد تفكير مضنٍ راح القلق يساورني. فأنا أعيش من دخلي المتواضع وأساعد عائلتي التي تعاني الأمرَّين. راتبُ والدي, الذي سُرِّح من الجيش لأسباب أمنيَّة لم نستطع معرفتها, يكاد لا يكفي إعالة أشقائي الأربعة الذين ما زالوا يركضون وراء تحصيل علومهم. ورغم اضطرار شقيقي الأكبر للهروب إلى بلد مجاور بحثاً عن راتب مقبول, فإن الأسرة لا تزال تعاني من عجز دائم، الأمر الذي أثر في طباع أبي وتصرفاته، فصار دائم الضيق والتأفُّف في وجه أمٍّ لا حول لها ولا قوة.

فكرت ملياً: "ماذا لو خسرتُ أنا أيضاً وظيفتي التي تتَّكئ أسرتي على بعض مردودها؟ ماذا لو أصبحت عالة على أناسٍ لا ذنب لهم سوى أنهم يعيشون ظروفاً لا يمكن تخطِّيها؟" وهكذا قررتُ طلب مساعدة جارتي المخطوبة إلى مدير مكتب إحدى الشخصيات الهامة. وقد تدخَّل كواسطة لدى المسؤولين عن الموضوع لغضِّ النظر وعدم الضغط عليَّ. لكني رغم كل شيء...

أجبتُ بصوت مسموع: "أنا لستُ رفيقة يا أستاذ!" يتجاهل المسؤول القابع في ركن الغرفة الكبيرة جوابي. يتابع: "يبدو أن الذين يحاولون إيذاءك قد ازداد عددهم يا آنسة سراب! ما السبب يا ترى؟" يرنو إليَّ من بعيد. "هناك تقرير آخر في حقِّك!"

"تقرير آخر؟!" أسأل بغير اكتراث, وعيناي تلاحقان صورته الغائمة.

يرتدُّ ذهني إلى ما قبل بضعة شهور مضتْ, وأنا أجلس في المكان ذاته, وصوته يرن في أذني عالياً: "التقرير الذي وصلنا عنك يقول إنك عدائية. الشتائم تنطلق من فمك جزافاً, وتتجرئين بكلامك على المقدسات!" أتساءل بفورة دم سريعة: "هل أنا كافرة إذن؟!" يردُّ وعيناه تتلصَّصان على وجهي وقامتي: "بمعنى ما!" يقرِّب وجهه من وجهي. تلفحني أنفاسُه. "زميلتك في الغرفة تؤكد هذا في تقريرها!" "زميلتي؟!" أتسائل باستغراب. "بالضبط! وأنت تعرفينها."

أجيب بحدة: "أنا أعرف أن زميلاتي يحببنني، وأنا أبادلهنَّ الشعور ذاته. وأنا لا أعرف أحداً يريد أذيَّتي." تتغير سحنته, ويرسم على شفتيه ابتسامة وُدٍّ كاذب. "أنت طيبة على ما يبدو، وهذا عيبك. لا بأس. تحمَّلي النتائج! عندما عرضتُ عليك التعاون رفضتِ. كان بإمكانك الأخذ بثأرك من الجميع!" أجيب بانفعال ظاهر: "لا أريد أن أثأر من أحد. وأنا لا أشتم أحداً. لديَّ أمورٌ أهم من هذه لأفكر بها. ثم يمكنك أن تسأل رئيس الديوان والمدير العام!"

يستدرك مقاطعاً: "لا بأس... لا بأس... أردتُ فقط أن أُعْلِمَك بما يحدث حولك حتى تحتاطي, ولكِ الخيار." يودِّعني هذه المرة مصافحاً, ويوصيني بالحذر.

تتحرك شفتاه من بعيد ليصلني صوته هذه المرة كالهمس: "الحقيقة يا آنسة سراب أن هذا التقرير الأخير أثار عجبي ودهشتي. هل تودين أن أبلِّغك محتواه؟" لا أردُّ. يتابع: "التقرير يقول بأنك سمحت لأشخاص معيَّنين بالاطِّلاع على أحد دفاتر البريد السري الخاص بالشركة التي في عهدتك, وبذلك حصلوا على معلومات كاملة عن مناقصة هامة!"

يشرد ذهني: "عمَّ يتحدث؟ دفتر في عهدتي... بريد سري... أشخاص معيَّنين... مناقصة هامة؟!"

بصري ينصبُّ على شفتيه, وبلمحة، تنبِّهني حركتهما إلى ضرورة الرد: "دفتري, يا أستاذ, ليس لتسجيل المناقصات. المناقصات تُسجَّل على دفتر آخر ليس في عهدتي."

"دفتر مَن؟" يسأل بلهفة. "أنتَ أدرى... وإن كنتَ لا تعلم يمكنك أن تستقصي الأمر."

يبتسم بخبث, ويتحرك جسمه من بعيد فوق كرسيِّه الهزاز. "لا بأس يا رفيقة. اعذرينا هذه المرة أيضاً. سوف نتحرَّى الأمر. كان مجرد سؤال بسيط. أليس كذلك؟"

يصمت قليلاً, ثم يستدرك سائلاً بلهفة: "ولكن من كتب بحقك هذا التقرير الجديد؟ لا أشك أنك عرفت بذكائك من كتب التقرير الماضي. أما هذا فمَن يكون يا ترى؟ هل هي اليد الأولى ذاتها, أم هي يدٌ أخرى جديدة؟ ما رأيك؟"

أبتسم في سري: "إنك تعرف القصة من أولها. فلِمَ التغابي؟ لا. إنه ليس تغابياً. أنت تريد أن تزجَّني في موقف لا أُحسَد عليه. وأنا لن أعطيك هذه الفرصة. لقد قلتَ كلاماً صحيحاً تماماً. فأنا أعرف بالضبط صاحبة التقرير الأول. لازمتُها في غرفة واحدة خمس سنوات مضت. كانت مثالاً للرقة واللطف. لكن الظروف، أيها السيد، تحني أحياناً أعتى الهامات! فكيف بامرأة لا حول لها ولا قوة, على حدِّ رأيكم؟ وهكذا اضطرت صفاء تحت ضغط تهذيبكم العالي إلى الانحناء والتعاون المثمر. لكنني لم أحقد عليها, ولم أغيِّر معاملتي لها. بل، على العكس، ازددتُ معها لطفاً وتفهُّماً. أما فادية, الموظفة التي عُيِّنت في غرفتنا منذ أربعة أشهر, فهي تفوقها ظرفاً وأنساً. والأهم من هذا أنها تفوقها جمالاً. فمَن الذي يستطيع أن يصمد أمام غنجها ودلالها؟ أو أمام صديقها الذي يعمل مرافقاً لإحدى الشخصيات الهامة, والذي وضع وزنه الثقيل لتثبيتها في عملها بعد مباشرتها بأيام قلائل رغم أنف الجميع؟ من يستطيع ألا يغضَّ النظر عن زياراتها المتكررة لمسؤولي الشركة، وعن تبجُّحاتها الواضحة في مقدرتها على طرق أكثر الأبواب إحكاماً؟"

"أنا أيها السيد." قلتُ قبل أن أنهض للمغادرة. "لستُ رفيقة أولاً. لا تنسَ هذا. ثم إني لا أعرف شيئاً عن الأيدي التي تتحدث عنها. أتركُ الأمر لحنكتك وذكائك. فما أنا إلا موظفة متواضعة. هل تسمح لي بالانصراف؟" وقبل أن يجيب أستدير بحركة بطيئة باتجاه الباب. أغلقه على خياله البعيد المتواري خلف طاولته المركونة في طرف الغرفة.

عندما تلاحق قدماي الدرجات المتباعدة, وأجتاز عتبة الباب الخارجي, ألتفت إلى المبنى الذي غدا بعيداً عن ناظري بما يكفي.

ينشدُّ رأسي إلى فوق باحثاً عن نسمة هواء نظيفة. يلتصق نظري بقبة السماء الزرقاء الواطئة. يدخل ضياؤها إلى صدري فينفتح على الأفق. أمدُّ يدي إلى غيمة قريبة لها شكل نجمة. تلتصق بكفي. يسري في جسمي تيار يُلْهِب داخلي. أحس بالتوقُّد وبنار جَوَّانية تفصلها عن الخارج ألف طبقة جليد!
أعلى