محمد بنيس - عاصفة الشعر على الوباء

1.
كنا ننتظر من مارس أن يكون مطلع الربيع الذي يفتح طرقه الألف للقاء الناس بالطبيعة، بعد عودة خضرتها وألوانها إلى الأرض. وكنا ننتظر أن نحتفل خلاله بـ 21 مارس، اليوم العالمي للشعر. ففي هذا اليوم يرفعنا الشعرُ، من جديد، إلى أعالي اللانهائي والمستحيل، وفيه النشيد يوحّد النفوس، عبر الأرض.
ذلك ما كنا ننتظره من مارس، شهر الإعلان عن بداية الربيع الذي يعود بعد أن غاب لمدة سنة كاملة. لكن مارس حمل لنا، هذه السنة، ما كنا نسيناه، لسنوات على الأقل. الوباء، وعدوى الوباء.
أقصد فيروس كورونا الذي أصاب، منذ ثلاثة أشهر، أول الأشخاص في الصين. وفي 9 يناير الحالي توفي المريض الأول من بينهم بالفيروس. ثم من الصين انتشر عبر الأرض. لا مؤامرة في انتشار كهذا، فالفيروس لم ينتظر إذناً ولا ترخيصاً. انتشر في غفلة عن الجميع. ولا أحد حتى اليوم يعلم سر انتشاره بهذه السرعة التي أصبحت ملازمة لانتقاله بين البلدان والقارات. نفوسٌ تنوح من أرض إلى أرض. أصواتٌ من الأقصى نسمعها تتردّد في بيوتنا. ذلك هو أثر وسائل الاتصال السمعية البصرية، ووسائل التواصل الاجتماعي التي انشغلت بهذا الوباء، بطريقة تختصر المسافات الزمنية مثلما تتخطى الجبال والمحيطات.
2.
عدم التوقّع هو في حد ذاته من خدع هذا الوباء الماكر. كنا في بلدنا نظن، كما كان غيرنا في بلدانهم يظنون، أن الوباء مرصود للآخرين. كان لهم في البداية اسم الصينيين، ثم أصبح لهم اسم الكوريين الجنوبيين والإيرانيين. على أننا شاهدنا كيف أن الصين كانت صارمة في التعامل مع الوباء. بلد أصبح برمّته تحت المراقبة الطبية، ويعمل في الليل والنهار على كبح جماح الوباء. هذا المشهد المكبَّر هو الذي كان يبعث على الدهشة، ولكنه نادراً ما كان كفيلاً بأن يجعلنا ندرك إمكانية وصول العدوى إلى البلدان البعيدة، في أوروبا وأفريقيا وأميركا. الشرق الأوسط كان النقطة الأقرب إلى الصين وكوريا الجنوبية، ولكن العلامات الأولى للوباء فيه أخذت تتسلل من إيران، مع مسافرين لم يكونوا يدرون أنهم وقعوا في فخ العدوى.
عدم توقع أن الوباء يمكن أن ينتقل إلى بلداننا تركنا نسهر مع الحلم بشهر مارس، بالأرض التي تعلن عن تجدّد الحياة. الأغصان تحمل خضرة الأوراق وزهور فواكه، منها التفاح أو البرتقال والليمون واللوز. ألوان الورود والزهور ننتظرها في الحدائق العامة أو في أصص البيت. نسهر مع الحلم أيضاً باليوم العالمي للشعر. في عز برد فصل الشتاء كنا ننظر إلى البعيد العزيز، الشهر القادم، بعد انتظار كان لا بدّ منه. انتظار هو، قبل كل شيء، احترام لمواعيد الطبيعة. وفي الأيام كلها كان البعيدُ العزيز، شهر مارس، يقترب من نفوسنا باطمئنان. لا شك أنه قادم، لأن الطبيعة لا تخلف الوعد.
وعلى قدر الحلم، كانت لنا همومُنا الإنسانية المعتادة. فالصخرة التي كان الحلم يصطدم بها، هي مآسي بلدان عربية. في تلك الأيام الأولى من انتشار الوباء، كنا نوزّع فيها وقت متابعة الأخبار بين وباء كورونا ومآسي العالم العربي، بين ليبيا، وسوريا واليمن والعراق. ذهن مشوش لا يسمح للحلم بالاستمرار، ونفْسنا الحالمة لا تعرف الاطمئنان. لكن أمر الوباء لم يعد كما كان في البداية. إذ أصبحنا نشاهد هجوم الوباء على بلدان أوروبية، في مقدمتها إيطاليا، ثم جاء دور إسبانيا وألمانيا، والتحقت بها فرنسا، لحدّ أننا لم نعد نسأل أين وصل الوباء، لأنه أخذ يقتحم حدود البلدان المغاربية، ومن نافذة أوروبا، بدأ يطل على المغرب.
شيئاً فشيئاً شرعتْ كتابات في الظهور، أعني الكتابات الصحفية التي لها بعدٌ ثقافي أو أدبي، عن الوباء ومظاهر تأثيره في حياة الناس، كما في إيطاليا. لكن المتابعة الصحفية ظلت هي الأساس. لأن المعلومة المؤكدة، هناك وهنا، رفعت درجة التوثب، وضاعفت من حالة الانتباه. هو انتباه تحوّل بسرعة إلى مشاهد اكتظاظ الناس في الصيدليات، وبعدها في المتاجر والأسواق الكبرى. الوباء هاجم، من دون ريب. لا أحد يصرّح بهجومه. وعندما تدخل إلى سوق كبير لا تفهم سر إقبال الناس الكثيف على التسوق. عربات مملوءة، الواحدة بعد الأخرى، بكميات مضاعفة من المواد الغذائية ومواد الوقاية والتنظيف. هي كميات تذكرنا بتخزين المؤونة كما عهدناه في الماضي القريب. بل هو أكثر من ذلك. عربات مصطفة، وأخرى متزاحمة، على طول صناديق الأداء. وأنت لا تكذب ولا تصدق.
3.
هو الفزع القاهر الذي ينسيك شهر مارس، والشعر، واليوم العالمي للشعر.. حقاً، تصورتَ أن الناس يعيشون يوم القيامة. فهذه الفتنة التي تذهب بعقولهم ليست مجرد حرص على مواجهة الوباء، بل هي تحمل من علامات الخوف من الفناء أكثر مما تعكس الاستعداد للمقاومة، مقاومة الوباء.
فزعٌ يمكن أن ترى كيف تعبّر عنه طريقة الناس في اقتناء المواد الغذائية أو مواد الوقاية والتنظيف. ثم تعبّر عنه الكلمات المتبادلة بينهم. لا تختلف فيها الحكمة الأليفة عن اللغة القدرية. أحدهم يقول لغيره، الموت مرة واحدة. آخر يقول، هذا الوباء من غضب الله. وفي التباس كهذا يتعذر عليك أن تخترق الصفوف وتتدخل بكلمات تبدو لك، عندما تتأملها، مهينة لهؤلاء الفزعين. مثلاً، يمكن أن تتساءل عن مفعول كميات المؤونة غير الاعتيادية في الوقاية من الوباء أو من الهلاك. ثم تتمهل، تحترم كلام الآخرين في التعبير عن الحالة التي يحسون بها وسلوكهم تجاهها. أنت في سوق كبير، وهو ملتقى نفوس علمتْها ثقافتها أن تحفظ عن ظهر قلب سُوَر الخوف من الفناء والفزع من الوقوف بين جدارين، جدار الوباء وجدار الموت.
4.
غريب ما شاهدت! فالتسوق هو ما كان مسيطراً على المشهد في بدايته. وبعد ذلك أصبحت الأخبار ترد. شلال من الأخبار يتدفق عبر القنوات التلفزية والإذاعات والصحف، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. أخبار عن الفيروس بلغات عدة تتصارع على عتبة «واتس آب». أخبار عما يحدث في أكثر من بلد، وأخرى، في الوقت نفسه، تخص بلدك. مثلاً، مغاربة مقيمون في إيطاليا، جمعوا أمتعتهم وركبوا على متن سيارات وحافلات وتوجّهوا إلى الجزيرة الخضراء من أجل العودة إلى المغرب. لكنهم عند وصولهم إلى الميناء وجدوا كل شيء مغلقاً. شبابيك بيع تذاكر البواخر وباب الميناء. وفي الخارج المتاجر مغلقة والفنادق مغلقة. لقد تم إغلاق الحدود بين إسبانيا والمغرب. ولأن هؤلاء المواطنين لم يتقبلوا واقع الوباء، ولم يعودوا مطمئنين للمكوث في إيطاليا، البلد المضيف، الذي التحقوا به هرباً من واقع مغربي، وتجاهلوا التعامل مع الوباء مثل غيرهم، فقد أقدموا، وهم في قمة الفتنة، على اقتحام مقر القنصلية المغربية.
واقعة لها مثيلاتها، في مناطق متعددة من العالم. هي واقعة الفتنة أمام الفناء. أميركيون وفرنسيون وإيطاليون وصينيون، شاهدنا وسمعنا حكايات عن حرص المسافرين منهم على العودة إلى بلدانهم، لأنها الطريقة الآمنة لمواجهة الوباء، الذي لا أحد يعرف كيف سيتطور في الأيام اللاحقة. والخوف من تفاقم عدد المصابين بالعدوى هو ما كشفت عنه قرارات سلطات العديد من البلدان بإغلاق المؤسسات العمومية والخصوصية، والحد من التنقل من دون حاجة ملحة. وقضت بلدان أخرى بملازمة المواطنين بيوتهم وعدم السماح لهم بمغادرتها، إلا عند الضرورة، وفرض غرامات مالية على المخالفين.
يمكن أن نرى في التلفزة مناظر مدن فارغة تماماً في كثير من الدول، أو عدداً محدوداً من المركبات والراجلين. ونرى، في حالات أخرى، سكاناً ملازمين لبيوتهم يتضامون فيما بينهم ليلاً، من نافذة إلى نافذة، بالموسيقى والغناء والرقص وتعاكس أضواء الهواتف المحمولة. في بلدان أخرى، تُظهر الصور طوابيرَ الذين ينتظرون دورهم لدخول الأسواق، أو التباعد بين الواقفين في صفوف الانتظار. وهي تؤكد امتثال الناس للنصائح الطبية، وتجسد الرغبة في النجاة من الإصابة بالعدوى. ثم أوضاع متناقضة نتتبّعها، فيها الامتثال إلى جانب اللامبالاة. أو فيها الحذر يتآخى مع المجازفة. وعند المقارنة بين بلد وآخر، أو بين شعب وشعب، يصعب أن تميّز دائماً في الصور الجماعية ما يفرق في السلوك بين أهل بلد وبلد. ذلك التصنيفُ المعروف للفوارق، الثقافية أو الحضارية، بين الشعوب والبلدان، قليلُ النفع، في رصد واقع الخوف من الوباء.
5.
تذكرت تاريخ الأوبئة التي أصابت البشرية، عبر تاريخها الطويل. بل أثار اهتمامي كلام بعض العلماء الغربيين، المختصين في الأوبئة الذين أوْضحوا أن تاريخ الأوبئة يعود إلى ملايين السنين. وما ينبّهون عليه أكثر هو أن فيروس كورونا وباء غير معتاد. وباء فتّاك، عنيف في هجومه على الأجساد، له القدرة العاتية على أن يصيب البشرية بأجمعها، ولن ينجو منه شعب ولا بلد. نعم، وضعية العولمة تسهّل انتقال العدوى. لكن ما يبعث على التأمل هو أن تصبح البشرية كلها في قبضة هذا الوباء.
بعد متابعة الأخبار أعود إلى الشعر. أفتح ديواناً وأقرأ. هي طريقتي في الحياة. الشعر بوصلتي ورفيقي. لا أخونه، لأنه علمني على الدوام كيف أحيا، كيف أواجه، كيف أنشرح أو أكتئب. وأنا وفيٌّ للشعر. أفتح الديوان وأقرأ. ومع القراءة ألتقي من جديد مع البدئي الذي يجب ألا أنساه. أيْ معنى الحياة والموت، بالشعر وفي الشعر. ويمتد الوقت في القراءة، حيث أصبحُ متحرراً من مشاهد الفزع والفتنة. ثمة مع الشعر طريقة مختلفة في النظر إلى الكوارث، مثلما هي طريقة استثنائية في الاحتماء من التنكر للحياة.
وتمنحني قراءة الشعر فرصة للتأمل.. أتأمل من جديد تاريخي، وتاريخ بلدي، المغرب. ومنه أزمنة ومآس اختبرتها شعوب، في أكثر من مكان في العالم. كانت الأوبئة ملازمة لحياة الشعوب. وقد عاشت بعد الأوبئة مثلما عاش أبناء الضحايا، وأنجبوا، واستأنفوا مسيرة الحياة.
للأوبئة تاريخُها. في المغرب، كان وباء الطاعون، في نهاية القرن الثامن عشر (1799 - 1800)، مثلاً، تسرّب من الجزائر إلى الريف المغربي، ومنه اكتسح المدن. فاس ومراكش والرباط، وبعدها تطوان وطنجة. كاد الطاعون يقضي، حسب ما يكتب المؤرخون، على ما بين ربع ونصف سكان المغرب. كان عدد الموتى في فاس يصل إلى ألف ميت في اليوم الواحد، وفي مراكش إلى ألف وثمانمائة. موتى، في البيوت والطرق والأسواق والمساجد والأضرحة، كانوا لا يعثرون على من يقوم بدفنهم. لذلك تم حفر المدافن الجماعية وإهالة التراب على الجميع.
قبل ذلك، في الجهة المقابلة للشواطئ التونسية، كان الطاعون الذي حل سنة 1348 بفلورنسا، فاجعة تاريخية. مات الآلاف من سكان المدينة، فيما انتشر الوباء خارج إيطاليا وأوْدى، لاحقاً، بحياة ما يقرب من ثلث سكان أوروبا. قصص جيوفاني بوكاشيو، في «الديكاميرون»، التي كتبها حوالي 1350، تسجل، بأسلوب مرح يفرّج عن نفوس النساء القارئات، مظاهر وآثار الطاعون في فلورنسا. قصص على لسان جماعة من الشبان، سبع نساء وثلاثة رجال، أعمارهم بين 18 و25 سنة، هاجروا من فلورنسا إلى قرية في ضاحية المدينة. وهناك، في البيت الذي لجأوا إليه، تبادلوا، في ظرف عشرة أيام، بأسلوب دقيق وواقعي، سرد مائة حكاية، عما عاينوه من المآسي والوقائع المفجعة للوباء الذي دمّر النسيج الاجتماعي لمدينة فلورنسا وعمّم الخراب.
6.
من المحتمل أن تصبح الشوارع في العواصم العربية، في أقرب الأيام، فارغة من السكان. لا أستبعد هذا الاحتمال، فمنطقتنا مقبلة بدورها على انتشار كاسح للوباء. هذه نظرة واقعية، حسب العلماء العارفين. وإذا كان كل واحد منا يتمنّى ألا يحدث لنا ما حصل في الصين أو إيران أو إيطاليا، فالتمني وحده لا يكفي. ثمة معطى يتحدى ما نتمناه. وهو يعمل رغماً عنا، فضلاً عن أننا لا نتوافر، للأسف، على ما يلزم من المعدات الطبية لتأمين العلاج لعدد كبير من المصابين المحتملين من العدوى.
أنظر إلى احتمال كهذا، وأنا ألزم البيت كما يلزمه غيري، أو يستعد للزومه. لزوم البيت لفترة لا نعرف عنها شيئاً. أما مقاومة أيّ واحد منّا للوباء فتعني، على مستوى التفكير، ألا ننسى ما يمكن أن تقدمه لنا قراءة أعمال أدبية وربط الصلة مع أعمال فنية. ورغم أن الأدب والفنون لا تقينا من عدوى الوباء، وليست بديلاً عن العلاج الطبي، فهي تنقلنا، نفسياً وتخيُّلياً، إلى عالم أرحب، فيه الكثير من الضوء. هذا ما يعلمنا إياه الأدب وتغوينا به الفنون. عزلتنا كعائلة صغيرة، أو كفرد وحيد، في البيت لأيام (أو لأسابيع)، محرومين من الاتصال بمن تعوّدنا على اللقاء بهم أو العمل معهم، يمكن للأدب والفنون أن تمنحنا فيها فرصة تجديد صلتنا المبدعة بالحياة. ففي عزلتنا داخل البيت، وفي صمتنا، نحتاج إلى الإبداع في مواجهة الوباء. هذا اختياري في الحياة التي أتعلق بها، وبالشعر أعيشها، من خلال الطاقة التي يُمدّني بها، في الإحساس والرؤية والتساؤل. تقول لي نفسي، وأحب أن أتقاسم ما تقوله لي مع سواي. كهذا يكون بيني وبين الآخرين ما يجب من التضامن. لا كلفةَ في موقف مشترك لمواجهة الوباء، ولا عبءَ في مواجهة كل أنواع الاستسلام أو التفريط في القراءة، خاصة قراءة الشعر الذي يزوّدني بإبداع طاقة البقاء، وجهاً لوجه مع الحياة.
لهذا أعطي للشعر قوة العاصفة التي لها أن تهبّ من جميع جهات الأرض على الوباء، حتى نقول «لا» لما يتسبب فيه تدميرُ البيئة من مآسٍ للبشرية، ونقول «لا» للعولمة التي تعطي الأسبقية لطغيان رأس المال واستفحال الهيمنة، ونقول «لا» للفزع الذي ينزع عني وعنك صفة الشخص المواجه للبلايا، ومنها هذا الوباء.
هي عاصفة الصفاء الذي تقدمه القصيدة عبر تاريخها الطويل. بهذه العاصفة أمتثل، من دون تلكؤ، للنصائح الطبية التي لا بدّ من احترامها، وبها أحيّي الهيئة الطبية التي تعمل، متضامنة عبر العالم، على إنقاذ حياة أفراد عاجزين عن التصدي لطاغوت الوباء، وبها أفكر في المآسي.
عاصفة الشعر أو عاصفة الصفاء. فالشعر هو نبع الحيوية التي ترافق كلَّ واحد منا في عزلته، في صمته، وفي حلمه بأن يسعد، في مارس من كل عام، برؤية زهور التفاح، والبرتقال والليمون واللوز، أن يرافق الهواء من يوم ليوم في عالم منفتح، يدلّنا الشعر، نبعُ الصفاء، عليه.



أعلى