جهاد فاضل - متحف الغزل في شعر بشار بن برد

أكاديمي فارسي يحاول الاستيلاء على بشار ونسبه إلى تراث فارس
بشار عربي بلسانه وثقافته وشعره ولا صلة له بالفرس وتراثهم
نقاط التقاء كثيرة بين الغزل العربي والغزل الفرنسي
الالتقاء في الغزل ومعانيه موجود عند الشعراء العرب
الغزل يفرض نفسه من أولى المعلقات حتى شعر اليوم
الحور أحبّ سيماء الجمال في المرأة إلى نفوس العرب



في كتاب من جزءين يحمل عنوان "شعريات عربية" يختار الأكاديمي التونسي توفيق بكار، وهو ناقد ومحلّل أدبي بارز، نصوصاً من الشعر العربي القديم والحديث، ويقف عندها متأملاً متفحصاً، ولأنه متشبع بثقافتين عربية وفرنسية، وخبير بالشعر وبالمناهج الحديثة في نقده، فإنه يأتي بالعجب العجاب عند دراسته.

ويؤلف هذا الكتاب نموذجاً لمعالجات هذا الأستاذ الكبير الذي يتوقف عند نصوص بعينها، منها ما أورده أبو الفرج الأصفهاني في كتاب "الأغاني" عن جمع من الرواة، خبراً مفاده أن بشّار "كان يهوى امرأة من أهل البصرة، فراسلها يسألها زيارته، فوعدته بذلك ثم أخلفته، وجعل ينتظرها ليلة حتى أصبح، فلما لم تأته، أرسل إليها يعاتبها، فاعتذرت بمرض أصابها.

لا يزال الغزل، منذ كان، لا يأخذ بالنفوس في حسّ العرب، ما لم يُشْجِ، وإنه لأشجى ما يكون عندهم إذا شكا البين، فالوصال حال، في سرّ المخادع تُعاش، وشيء في الشعر لا يقال، أو كان منية نفس ولا تُنال، أو فات وصار حسرة، فهو إما أفق صبوة أو ماضي ذكرى "ذكرى حبيب ومنزل". فإن يكن للقول في قصائد الغرام مدار، فالتوق أو الشوق لا الذوق، مرّ الفراق لا حلو العناق. ونحن في قصيدة بشار كالجالس في دار مسرح أمام ركح، وعلى الركح عاشق طريح يبثّ للظلام همومه، لاعب يشخّص مشهداً، فيرائينا بمثل حال من واقع العشق. وما في الأمر إلا تخييل وتمثيل، صورته نرى وصوته نسمع، ولا الدور من تدبيره ولا القول.

الشاعر والعاشق

وبشار في القصيدة كالواحد، وهو اثنان، لسان في لسان، وخطاب في خطاب، الشاعر والعاشق، ربّ القوافي وبطل القصة، وهذا يشكو، وذاك يشدو، واحد همُّه حبيبة، ولا شأن للآخر إلا نظم قصيدة، ولا ينادي ليلاً، ينشد خِلاًّ من الأنام لعله يطرب لأبياته ويعجب، فيشهد له بالنبوغ.

ينتقل الباحث التونسي من بيت إلى بيت في القصيدة فيقتله شرحاً، ويقارن بين الغزل العربي والغزل الفرنسي، فيجد نقاط التقاء كثيرة، إن لم تكن المعاني واحدة أحياناً. ويجد مثل هذا الالتقاء عند الشعراء العرب فيما بينهم، فإذا كان بشار قد ندب ليله فكل شاعر يندب هذا الليل، وقد ندبه من قبله، ولا يزال يندبه، كل متيّم لنا، في الشعر أرّقته أشجانه، من أولى المعلقات إلى آخر موّال يشدو به الشعراء والمغنون اليوم: "ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي"، "يا ليلتي تزداد نكرا" "يا ليل الصبّ متى غده" "يا ليل يا عين".

أرق الغزل

ومع أن غزل بشار هو من أرقّ الغزل، إلا أن تجاوب النساء معه كان محدوداً، ويروي الأصفهاني حكاية تعّبر عن رأيهن فيه. فقد قالت إحداهنّ له: "وأي معنى فيك لي أو لك فيّ؟ أنت أعمى لا تراني فتعرف حسني ومقداره، وأنت قبيح الوجه فلا حظ لك فيّ، فليت شعري لأي شيء تطلب وصال مثلي؟، وجعلت تهزأ به.

ولكن الحرمان لا يقل كفاءة عن الوصال في تأجيج نفس العاشق وكذلك في إنتاج الشعر الجيد. فعلى عماه، أنتج بشار من هذا الشعر ما لم ينتجه شعراء، تمتعوا بالحب أكثر مما تمتع هو به. وعلى هذا العمى أبصر ما لم تبصره زرقاء اليمامة، فقد قال:

حوراء إن نظرت إليك = سقتك بالعينين خمرا

لقد توارى شخص الحبيبة عن عين المحب، فهلّ بباله طيف جمالها، فتبدل المشهد غير المشهد، ضاءت أضواء، وراقت الأجواء، كنا مع الطالع ونحن من هول الليل في هلع:

يا ليلتي تزداد نكرا = من حبّ من أحببتُ بكرا

فصرنا مع هذا التالي ونحن في دهش من حسن بدا كالمحال، وما أطلّ ليراه العاشق فيتسلّى عن الحقيقة بالخيال، بل ليريُكهُ الشاعر فتتملّى في فنه.

المحاسن

ويشرح بشار في وصف "المحاسن"، وهو قسم قلما يخطئه في شعره غزّال، فلكل من فتاته لمحة، أو لوحة، يخطّها بالكلام، وبألوان من البيان يلوّنها، حتى حصل لنا من كل ذلك «متحف» ترصّعه من الغيد صور كأعجب ما تراه العين:

مهفهفة بيضاءُ غيرُ مفاضة = ترائبها مصقولة كالسجنجل
غرّاء فرعاءُ مصقولّ عوارضُها = تمشي الهوينى كما يمشي الوجيّ الوحلِ

------

غادَةٌ تَفتَرُّ عَن أَشنَبِها = حينَ تَجلوهُ أَقاحٍ أَو بَرَد
---
فصدّت بخدّ وجلّت عن خدّ = ثم انثنت كالنفس المرتّدِ

-----

أجنت لك الوجد كثبان وأغصان = عليهنّ نوعان تفّاح ورمان
وفوق ذينك أعناب مهدّلة = سود لهنّ من الظلماء ألوان

موكب خُلّب من الغواني ترى فيه عجائب من إبداعنا في فن "الرسم" على كل مذهب: واقعي وفوق واقعي، تجسيدي وتجريدي، وانطباعي وتعبيري، وتكعيبي، وما لا يُعرف له إلى اليوم اسم.

لمع السراب

صاحبة بشار من الحسن بما لا يُحيط به وصف، فحاوله بـ"كأنّ"، و"كأن"، و"تخال" و"كأن"، ولم يصب منه إلا كخطف البروق، أو لمع السراب، ولم يزل في ذلك كالقانص يطارد بشراك اللفظ، شارداً من الحسن، والحسن منه هارب، حتى استوفى ستة أبيات من عشرة، كأن الوصف يكون فصلاً في القصيدة، فإذا هو كأنه الكل، بؤرة الفن فيها ومبعث النور، وما قبله فتمهيد، وفاجعة المحب على سبيل الخاتمة وبينهما صورة البكر فاخرة باهرة.

بالعين بدأ نعتها، وبتدبير باطن في ظاهر العفو - وأحق الفن ماخفي - متدرجاً من كل البكر إلى جزئها الأخاذ، مغوى الرجال، من أعمّها إلى أخصّها، قطب جمالها، عين زينها من زين عينها.

عين "حوراء" فإذن عين سمراء، سواد حدقة يعوم في محيط من البياض، غامض في ناصع، مظلم ووضّاء، كأنهما الليل والنهار، الليل بسّره والنهار بجهره. عين بالعاشق لعوب، لا يدري معها أتماكره بظاهر من الحب، أم تصافيه الود حقاً، حائر أبداً بين كذب وصدق.

الحور أحبّ سيماء الجمال في المرأة إلى نفوس العرب، حتى وُسمت به نساء الجنة، والحوريات، فمسبوق بشار في هذه الصفة، ويعلم، وأكثر الظن أنه قد أخذها من جرير عن بيته الذائع، وعُدّ في عصره أغزل بيت قالته العرب:

إن العيون التي في طرفها حورُ = قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا

عشق الأذن

وجرير لبشار غريم، هجاه، أول مطلعه، ليكبر به، فاستصغره جرير ولم يُجبه، فلم يزل بشار يلاحقه في أشعاره، عارض عشقه بالعين هذا بعشقه بالأذن في قطعته الشهيرة:

يا قومُ أذني لبعض الحيّ عاشقةُ = والأذنُ تعشق قبل العين أحياناً

ومن العين ينزل بشار بالوصف إلى الثغر:

وكأن رجع حديثها = قِطعُ الرياض كُسين زهرا

وكم يغري الثغر، وكم يغري بالشعر، وما أكثر ما شبهّه الشعراء بالأقاحي!

وما بشار بالمقلّد فيردّد، يبدع في الصورة فيجدّد، عدل بالزهر وعطره عن الثغر ذاته إلى كلامه وإلهامه، فإذا لا ثغر كالأقحوان، ولا أسنان من برَد أو جمان، حسن البيان ووجيه، إذا حدّثت به البكر ترامت أصداؤه لا رنات في الأذن، في العين بهاء، وفي الأنف طيب، مروج غضة تفوح نوراً من كل لون وكل جنس، ورد وآس وبنفسج وخزامى، وسوسن وجلنار.

بيان كخير بستان مخضار مزهار معطار، بتقلب العاشق فيه بين لذات شتى، بهجة منظر، وضوع عطر، غياض ريّا، وريحان مبثوث، وحورية، وبشار في نعيمه يرفل.. وأنت معه بفضل «كأن» بعد شوط «إن».

ومن البيان يغور بشار في الثغر:

وكأن تحت لسانها = هاروت ينفث فيه سحرا

يغور كشفاً عن سرّ الحديث من الروض والزهر، فإذا جنّ فيه مستكنّ «تحت اللسان» بصريح المعنى، وبمسموع اللفظ كالمعقود إلى طرفه، من أول اسمه، بضمير البكر. فأهٍ له من لسان، آه له من جان!

وتخال ما جمعت عليه

ثيابها ذهباً وتبرا

تحلّ «تخال» في التشبيه محل «كأن» نفياً للتكرار، وتمهيداً للنهاية.

الثغر يجذب

يقفز بشار من تحت اللسان إلى أسفل الجيد، قوام الكل، وفي العشق غاية الغايات، فالعين تسبي، والثغر يجذب، والمشتهى غيرهما آخر. إلا أن في هذا «الآخر» حرجاً يثقل، فليس حكم السافر كحكم المستور. ذاك متاح وهذا محظور. فالجسم في شرع المجتمعات عورة لا يجوز لها كشف، لا في الرؤية ولا في القول، إلا في الخلوات المباحة.

عناه بشار وما سمّاه، ولا آراه. كنّى عنه في لباقة الأكياس، بـ «ما» اسم الموصول، وكأنها الإبهامية، من فرط التعمية.

استردّت «كأن» من «تخال» في التشبيه مكانها، إيذاناً بالختام، ثم تفصيل المفاتن، واستدار الوصف راجعاً إلى بدئه، عامة البكر.

وكانت في الأثناء قد ذابت خمرا، ثم ضاعت عطرا، ثم شاعت سحراً، ثم أشعّت تبرا، وهي ذي من جديد تسيل، وكلاّ لا بعضاً، وزُلالاً لا مُداماً، وليس المقصود الماء في ذاته، بل في صفة من صفاته، برده. ولا في كل حين، بل في ميقاته من شهر الصيام خاصة وقد طال إمساكك، فأنت أشدّ ما تكون شوقاً إلى ريّه. تشربه فيثلج صدرك كأنه برد اليقين.

وفي :

جنّيةُ إنسّيةُ

أو بين ذاك أجلّ أمرا

صفوة الحسن يكتمل بها التشبيب في هذا الشعر.

بيت كالتاج يجلل صورة البكر. حد الوصف في القصيدة بلغ فيه الشاعر أقصى الجهد. وهل لوصف بمثل روعتها إلمام؟ يربو جمالها على كل حصر. فوق النهى والخيال، فوق الشعر والفن. وحسبك من بشار ما أراك منه، وأذاق وشمّم، إيحاء بالتخييل بعد التخييل. والآن وقد أعياه أمره، يقف بك أمامه حائراً لا يدري له سرّاً، ولصاحبته أصلاً.

طيف أحلام

ما من بشر هي ولا من شيطان، من فن فنان، غادة من عذاري الإلهام، ولا قوام إلا الكلام. القصيدة جسمها، واللفظ لها لحم، والحروف لحن، طيف أحلام، وشاعر ذو هيام، فإذن بكر لا من الأنام، ولا من غير الأنام،. بقوة الحدس، والعين كفيفة، سوّاها كأخلب ما يكون من الغواني، يُرى لها جسم ولا يُعرف لها اسم ولا جنس. آية رسام، يباهي بها الأنداد في «متحف» الغزل.

على هذا النحو يمضي الباحث التونسي الكبير توفيق بكار في تحليل قصيدة بشار الشاعر الذي تدلّ أخباره على أنه كان خبيراً بشؤون الحياة وبالنساء.

وإذا كان هذا علمه بشؤون الدنيا، فإنه كان مضطرباً بشؤون الدين، فقد قيل إسلامه كان ضعيفاً، وإنه، على الأرجح، كان "مانويا" في أعماقه.

وفي بحثه حاول الأكاديمي الفارسي «الاستيلاء» على بشار وسوقه إلى تراث فارس، معتبراً أنه كان مغترباً في تراث العرب وأنه قُتل في النهاية لأسباب منها شعوبيته أو فارسيته. ولا شك أن مثل هذا النظر يفتقد إلى العلمية والنزاهة. فبشار عربي بلسانه وثقافته وحياته وشعره، والمرء حيث يوجد لا حيث يولد، حيث يثبت لا حيث ينبت، وشعر بشار عربي كأي شعر عربي آخر، ولا صلة له ذات شأن بشعر الفرس ولا بتراثهم.
أعلى