أنيس الرّافعي - عدم مطابقة المنطقة لمقتضى الحال

( وعد اليرقة لا يلزم الفراشة)
أندري جيد - تر: شكير نصر الدين

( إلى منير السرحاني )

بعد صدور البلاغ المشترك لكلّ من وزارتي الداخليّة والصّحّة، الخاصّ بتمديد سريان مفعول حالة الطوارئ الصّحيّة، وتذليل بعض القيود المتشدّدة المتعلقة بها، وجدتني مصنّفا ضمن منطقة التخفيف رقم (2).

في البداية، لم أفهم هذا التصنيف الانتقائيّ جيّدا ، ووفق أيّة مؤشرات تمّ اصطفائي، لكن عندما ألفيتني مضطرّا بشكل استعجاليّ للتوجّه نحو منطقة التخفيف رقم (1)، أدركت كما يجب الفرق البيّن والحاسم الموجود بين المنطقتين العازلتين، وكذا الامتيازات المخوّلة لكليهما.

إذ تحتّم عليّ بأيّ ثمن زيارة خطيبتي الجميلة للا كاميليا السعيدية ، والاتّفاق مع أهلها على موعد قريب لعقد القران ، وإلاّ سوف تنقض أيّ وعد سابق بيننا، كما تناهى إلى مسامعي عبر تهديدها الجادّ ، ضمن آخر مكالمة تلفونيّة زاعقة بيننا.

فبكلّ صدق ، لم يكن في حسباني البتّة الحلول المفاجئ لهذا الوباء "الكوفيديّ" الرجيم ، ولم أكن أتوقّع على الإطلاق أن يستمرّ هذا الحجر الصحيّ البغيض طيلة هذه الفترة ، التي جاوزت الثلاثة أشهر .

المهمّ ، وكيما لا يفشل مشروع زواجي المرتقب، سعيت عدّة مرات ، وبمنتهى جهدي الممكن، قصد المرور من منطقة التخفيف رقم (2) إلى منطقة التخفيف رقم (1) ، بيد أنّ السدود الأمنيّة الصارمة كانت لي بالمرصاد.

بل الأنكى من كافّة هذا ، كانوا يختمون في كلّ مرة ترخيص الخروج الاستثنائيّ الذي بحوزتي من أجل التنقّل داخل المجال الترابيّ ، بهذه الجملة الغامضة، التي لم أفقه إلى يومنا هذا مغزاها : " عدم مطابقة المنطقة لمقتضى الحال " .

انقضى صبري بعد أسبوعين من المحاولات المخفقة ، لكنّ عزيمتي واصلت سعيها لاختراق الحدود الحازمة بين المنطقتين ، حتّى عثرت ذات يوم، وبمحض الصدفة الخالصة، على منفذ سرّيّ صغير بين العالمين.

نعم ، عثرت على ممرّ مضمر ومجهول، أصبح يتيح لي العبور واللّقاء بحبيبتي الغاليّة للا كاميليا السعيدية .

صحيح أنّ المنفذ كان ضيّقا و شديد الانخفاض، مما جعلني أزحف وأدبّ بصعوبة بالغة على بطني مثل يرقة اليسروع ، غير أنّ جميع هذه المكابدات الدّوديّة لا تساوي شيئا أمام فرحة الجلوس، لبضع ساعات قبل وصول موعد الحظر الشنيع ، مع المرأة الأخّاذة التي اختارها قلبي الكهل المنهك لسنين طويلة بتجارب الأجساد العابرة.

لم تنقطع زياراتي السعيدة لمنطقة التخفيف رقم (1) لقرابة عشرة أيام ، إلى أن لاحظت أثناء عودتي المتسلّلة لمنطقة التخفيف (2) أنها بدأت في التقلّص شيئا فشيئا .

كيف أشرح لكم؟..لقد استحالت فجأة إلى ديكور " مينيماليّ" ، أو بالأحرى إلى نموذج مكانيّ مصغّر، كأنّه مسرح منضمّ الأبعاد للناحية التي كنت أسكن بها . وفي هذه الآونة بالذات، انتبهت أيضا إلى البدايات الأولى لانكماش حجم جسدي.

جسدي الذي غدا أكثر طواعيّة ومرونة ، وهو يمرق عبر المنفذ المفرّق بين المنطقتين، في اتجاه الأحضان الدافئة لسيّدة أحلامي للا كاميليا السعيدية .

ما علينا ، فكلّ هذا لم تكن له أيّة قيمة تذكر ، مادمت أواظب على اللّقاء بخطيبتي ، وما دامت تثني في كلّ مرّة على قامتي، التي صارت قصيرة بشكل غير اعتياديّ.

فهاهي، أخيرا ، للا كاميليا السعيدية لم تعد تنزعج من طول قامتي، ومن شكواها الدائمة لإرغامي لها على لبس أحذية الكعوب العاليّة، كلّما خرجنا إلى وسط المدينة، أو إلى كورنيش البحر.

إذن ، قزامتي الطارئة لم تكن هي المشكلة العويصة ، وإنّما في الواقع تبدّل نمط العيش بين المنطقتين . أعرف تماما ما أتفوّه به ، بحكم كوني غدوت مهاجرا سرّيّا متمرّسا بين الجهتين. بين تلك المحظوظة وبين سيّئة الطالع . فمنطقة التخفيف (2) باتت مثل سجن ضئيل داخل ذاك التمثيل المصوّر المعماريّ الذي حدّثكم عنه ، في حين احتفظت منطقة التخفيف (1) بشتّى أبعادها الحقيقيّة .

منطقة التخفيف (2) ارتدّت إلى مجرّد حياة افتراضيّة جدا مليئة بالزمن المفقود ، بينما غدت منطقة التخفيف (1) حياة واقعيّة تماما و موئلا للزمن المعثور عليه.

تواصل قصور قامتي و تقبّض بدني ، حتّى تبّرمت للا كاميليا السعيدية من مآلي ، وعمدت إلى وصفي ذات يوم في سورة غضب بالدّودة الحقيرة القادمة من منطقة التخفيف (2) . وبالطبع لم أسكت لها فنعتتها بدوري بالبقرة السمينة المنحدرة من منطقة التخفيف (1).

انتهت علاقتنا وتهدّمت خطبتي على نحو مأساويّ غير منتظر، غير أنّ الأفظع من كلّ هذا هو الاختفاء المفاجئ للمنفذ السرّيّ الرابط بين المنطقتين .

اختفاؤه من الجهتين معا وأنا في طور الاجتياز .

أنا الآن هناك ، في الداخل ، أتعوّد على طبيعتي الجديدة كدّودة تعيش في المنطقة المحايدة بين المنطقتين ، ولا أحلم أبدا أن أصير يوما فراشة !
أعلى