إبراهيم الكوني - في ذمّ النبأ.. في مديح النبوءة!

في المرحلة الكلاسيكية لم يكن مريد الحقيقة في حاجة لأن يعرض نفسه أمام الملأ، كي ينتزع اعتراف الناس، كما هو الحال مع أزمنة الحداثة التي تعاني من تخمة المعلومة التي لا يستحي الهواة من أن يعملوا على تسويقها كمعرفة، ليبلبلوا، بهذه الخطيئة، واقع وجودنا الروحي على هذا النحو التراجيدي الذي تعيشه أجيالنا منذ الأمس القريب وحتى حاضرنا اليوم.

وغياب المعلومة، بمفهومها الحداثي العدواني، سوف يعني حضور نقيضها العلم: علمٌ يستعير هويّته من معبد السؤال. وأفلاطون يستطيع أن يطمئن لواقعه البريء فيتفرّغ للسؤال، دون أن يجرؤ الهواة على اقتحام خلوته القدسية، في وقتٍ كانت فيه الحكمة مازالت سجينة بيتها (ذي الأعمدة السبعة)، وكان أغنياء تلك الأزمان يضحّون بثرواتهم كي يحجّوا إلى سدنة أمثال أفلاطون مقابل أن ينالوا الإذن لأبنائهم بحضور المحفل الجدير حقاً بلقب الأكاديمية؛ لأن ما هي الأكاديمية كمفهوم إن لم تكن الحرم الذي يعتنق السؤال ديناً، ويحرّم على المعلومة دخول الحرم، ليقينٍ بأن المعرفة هي التشكيك في المسلّمات، وليست في استيعاب المعلومات.

فالأذن حقاً عمقٌ غيبيّ لا يرتوي من السمع. وهذا النهم إلى الصوت هو علّة شقوتها، كما أنه أيضاً موضع سطوتها. وصاحب هذا الجهاز العبقريّ الملفّق من نقيضين، لن يضمن ألاّ يقع ضحيّة في حال أساء الاستخدام بالاستسلام للتلقّي: فالصوت سفيرٌ مزدوج الهوية: هو لغوٌ حيناً، وإفادةٌ حيناً آخر. هو لحنٌ حيناً، ونبوءةٌ حيناً آخر.

كل ما علينا أن نحسن الإنصات إذا شئنا أن نحقق نجاةً. ولهذا السبب هو بمثابة الرسول المدجّج بوظيفتين، بل برسالتين: رسالة حرفية، أرضية، وأخرى مجازية، ذات طبيعة سماوية. أو بالأصح: طبيعة سامية. هذا السموّ تكشف عنه اللغة في الاسم. فكلمة “سمع” هي في الأصل “سما”، أي الانتماء لمملكة السماء، لا إلى الحضيض.

وحرف العين ما هو إلاّ همزة في العربية، لا في النطق وحسب، ولكن في شكله الأبجدي أيضاً، لأنه يُكتب كهمزة، كل ما هنالك أنها مصغّرة حجماً. وهو ما يعني أن حاسّة السمع خُلقت أصلاً لتكون لنا جاسوساً مفوّضاً لرصد الغيوب الفلكية العليا.

وكل ما علينا فعله هو أن نحترس جيداً كي نتمكن من التمييز بين الوسوسة الزائفة، والنبأ اليقين. أي بين الأنين الكوني وبين الوحي الإلهي.

أفلاطون يقول أن سرّ هوسنا بالموسيقى إنما يرجع للهوية الأصلية، أي الفلكية، لهذه الأعجوبة، لأنها الصوت المنبعث من سيرورة الأفلاك الأبدية، فتوقظ فينا بعدنا الضائع، لتتحول مرثية تترجم اغترابنا عن هذا الواقع الزائل الذي لم نطلق عليه في أبجديّاتنا فردوساً بلا سبب. ولهذا السبب تستهوينا الموسيقى لأننا نستعيد فيها هويتنا المفقودة.

ولا نسقط بسببها في نوبات الوَجْد إلا لقدرتها على المساس بأوتار الروح التي لا تملك إلا أن تستجيب للنداء: تستجيب لصوت الله.

في “العلم المرح” يحدّثنا نيتشة كيف كان الإلهام الشعري يولد في وجدان شيللر كنغمٍ موسيقي بعيد. ضربٌ من رزّ، كما يسمّي القدماء أنين السكون في واقع بيئيّ كان وطن النبوءة منذ الأزل، كما الحال مع الصحراء.

فالصمت لسان الله بدليل أن كل النبوآت، بل وكل الأفكار العظمى، ولدت من رحم الصمت. صمتٌ كانت له الخلوة أرجوحة مهد. والصحراء هي الحرم الذي أوجد الخلوة. ولولا هذه الموهبة لما أنجبت من رحمها النبوآت. وليس على مريدي النبوّة إلا أن يحسنوا نصب الشَّرَك، أي أن يحسنوا الإنصات، إذا شاءوا أن يستنزلوا كلمة الخلاص.

فالشعر الذي يتلقّفه شيللر كنوتة موسيقية، يجود بها الفلك في مباراته الخالدة، ما هو، في سلّم الوحي، سوى عتبة. مرحلة. منزلة تستطيع أن تتطوّر، بنصيبٍ كافٍ من تقنية، لتُدرك مستوى النبوءة. وهو ما يبرهن على صواب التصنيف الذي وضعه إبن خلدون للوحي.

واليوم، عندما نأبى إلا أن نتخلّى عن سموّنا، بالتنازل عن سمائنا، التي نلناها بفضل إتقاننا للسمع، إنما لم نحطّ في الواقع من قدرنا عندما نقبل بالمعلومة قدراً. هذه المعلومة التي لم يخطيء هنري ثورو عندما استنزل في حقها وسم النفاية منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما كانت وسائط الاتصال مازالت في طور انحطاط، فيما إذا قارنّاها بالطغيان الذي حققته اليوم، لنجد أنفسنا أسرى مكبّ نفايات، تحاصرنا به تقنية المعلومة التي لا تتردد في أن تفعل كل ما بالوسع كي توهمنا بأنه معرفة.

ولو شئنا استنطاق هذه الحصيلة التي يتباهى بعبع التقنية بها، لاكتشفنا كم هي مؤامرة هذه الذخيرة، المكرّسة للنيل من ثالوث أقطاب كانت في حياتنا قدس اقداس، هي: الوجود، والحقيقة، والمعرفة.

فلسان حال تقنية المعلومة عندما تتشدّق بأنها تهدينا فتحاً جديداً، يعفينا من واقعنا الحرفيّ، المعادي للشعر، والخصم للجمال، ليُلقي بنا في واقعٍ يسمّيه افتراضياً، مؤهّلاً لأن يكون الواقع البديل الذي هدهدناه في أحلامنا طويلاً: واقعٌ كل ما فيه افتراضي.

الصديق فيه افتراضيّ. الحبّ في رحابه افتراضيّ. الحلم فيه افتراضي، دون أن يخيفنا فينبّئنا بأن الوجود برمّته فيه افتراضي. يخفي عنّا هذه الحقيقة الصغيرة حرصاً منه على توقنا الغيبيّ للتحرّر من ورمٍ فجيع كان دوماً علّة شقوتنا وهو: الإحساس بالزمن.

بلى! التقنية تفعل المستحيل اليوم كي تغيّبنا عن أنفسنا، وتطرحنا في أبعاد الوهم، لا لشيء إلا لعلمها بحقيقتنا التي ترفض أن تواجه نفسها، لتغيّر ما بنفسها، وتهرب من نفسها، لتختلق خصومةً مع العالم، طمعاً في تغيير ما بالعالم، متجاهلةً أن الإنسان في الصفقة هو الأصل، وما العالم حوله سوى ظلّ.

ولهذا السبب يتلقّى الإنسان الهزيمة على يد العالم، لأن العالم ظلّ، ظلّه هو، في حمى لهاثه وراء التغيير، الذي هو بصيغة أخرى: التحرير، لأن الظلال مجرد انعكاس، ولا تتغيّر في المرآة ما لم يحدث التغيير في الأصل!

فهل حررتنا التقنية، بتعويذة سحرية اسمها المعلومة، من بعبع يسكن الإحساس بالزمن؟

كلا بالطبع.

التقنية قدّمت لنا، بمكبّ نفاياتها، وجوداً مفترضاً هو ليس، في الترجمة، سوى تغريبنا لا عن واقعنا وحسب، ولكن عن وجودنا نفسه.

فهل اكتفت؟ كلا، بالطبع. فاستكمال حبكة الشَّرَك، بل وبُنية الشِّرْك، بطولةٌ تستدعي فنوناً أخرى في التمويه. فالتقنية تطرح في دنيانا المعلومة بوصفها معرفةً.

معرفةٌ تحشو أفئدتنا بسيول معلوماتٍ لسنا معنيين بها أصلاً، لتدنّس بهذه الحيلة أرواحنا بالنفاية، مستغلّةً ضعف النفس الإنسانية في الاستزادة من مستودع كل ما يُسمَع، لأن هذه الحاسّة هي الهبة الوحيدة التي لا ندفع مقابلها فدية في حال نصّبناها فخّاً مجانياً، كل همّه أن يستلقي كي يتلقّى.

والمعلومة تدغدغ فينا سليقة تحيا عميقاً فينا وهي: الكسل!

فالسمع هنا ليس التنصّت لاستنزال النبوّة التي تتطلّب كفاحاً مميتاً، ولكنه هبة المجّان. وهذا المجّان هو الذي تستخدمه تقنية المعلومة كأفيونٍ لاستدراجنا، ولا تهنأ بالاً ما لم تجبرنا على إدمانه، بل ولا تتوقّف في حملتها ما لم تحوّلنا جثثاً لا يميّزنا عن الأموات سوى أننا مازلنا نتنفّس، لأن رسالة المعلومة أن تمحو الذاكرة، وتستميت لإحداث الشلل في العقل.

وهكذا يتحقق الفصل الثاني من الحملة وهو: تعطيل الفكر، وشلّ عمل العقل.

ولكن عجلة النحوس لا تتوقف عند هذا الحدّ. فهناك التحدّي الأقوى في الحملة وهو النزال مع العدوّ الأعظم: الحقيقة!

فما تستطيع أن تفخر به هذه السعلاة، المتنكّرة في مسوح ميفستوفلس، في كل عملها اللئيم هو حقاً الإطاحة بعرش الحقيقة في عالمنا.

مسوح ميفستوفلس؟

كلا بالطبع.

الواقع أن هذا المارد هو روحها. أما معطفها فهو جناح الملاك، لأن طلعة القداسة في غزوتها هو رأس مال، سيّما إذا تعلّق الأمر بالمبارزة مع خصمٍ مسلّحٍ بحجّة لا أرضية، كما الحال مع جناب الحقيقة.

وها هي داهية الحداثة هذه تُسخّر كل كيدها كي تقطع دابر الحقيقة من عالمنا، بحجّةٍ خبيثةٍ هي: حرية التعبير!

بلى! بهذه التميمة، التي صارت في عالمنا المهووس بالحداثة، معبوداً، كما الحال مع حرية التعبير، استطاعت تقنية المعلومة أن تنصّب في حياتنا الأكذوبة، لتكون هي المعبود البديل، لمعبودٍ غدا بفضلها فقيداً، كالحقيقة.

ولسنا في حاجةٍ لتقديم براهين على هذه البليّة، إذ يكفي أن نُلقي نظرة على صحائف أيّ جهاز آلي، كي نكتشف قدرة أي مغامر على نسج خيوط مؤامرة تستهدف إنساناً بريئاً، فلا يكتفي في حقه بنشر الزور، ولكنه يستطيع بجرّة إصبع أن يلفّق في حقه آثاماً كفيلة بوضع رقبته في المشنقة، دون أن يحتاج في حُكمه إلى دليل، ليقينه بأن كل مدمني هذا الجهاز الخبيث سوف يصدّقونه حتى من باب تلبية نداء طبيعتنا البشرية الآثمة التي تميل لتصديق الأكذوبة أكثر من ميلها إلى إحقاق الحقيقة!

هذا مثال على صنوف التضليل والاحتيال والزور والإرهاب الذي تمارسه التقنية في حق الأبرياء بحكم هيمنتها على أحجية، أضحت سحرية، وهي: المعلومة!

فالبلاء الذي يتخفّى في باطن المعلومة، وباءٌ مستعارٌ من المكيدة التي تسكن التقنية: سلاح الإبادة الكاملة هو شقّها على مستوى المادة (السلاح الذرّي)، وتغريب الحقيقة هو شقّها على مستوى الروح (تشريع الكذب).



أعلى