ناصر سالم الجاسم - اهتزاز العطر.. قصة قصيرة

الحفلة بدأت وبدأ الجو يتعطر معها.. سحابات مكتظة من العطور ترفعها إلى أعلى أصوات المغنيات والدفوف وتسافر في الجو الراقص..
وقفتِ العذراء وسط الساحة تؤدي أجمل الرقصات وعرفتُ بغريزتي التي لا تخطيء أنها البادئة فأخذتُ أحثها: دعي هذا الجسد الذي ينتج العطر يهتز أكثر.. رجي الأرض برقصك وفرغي عطرك على السجاد الأبيض.. اتركي شعرك يثور ويسافر في الفضاء المعطر.. حين تدورين في ساحة الرقص يبتدئ مرضي فأدور حول بيت الرقص.. عندما أحسكِ ترقصين ترتج أضلعي.. تتقوس.. يختل ترتيبها في صدري ويضطرب جسدي ينتج العرق والتبغ.. وأرجلي تُفرغ على الإسفلت الخوف.. بثي الفرح الذي يمتلئ به صدرك المهتز إلى أعين الغيورات.. ارحمي أكف حاملات الدف من رقصك فأياديهن ساخنة سخونة أجساد المرضى..
أنا لا أستطيع حمل السيف والرقص به في الحلقة.. قد يخونني وأقتل به.. حتى العصا العمانية قد تسقط من يدي وتدوسها أقدام الرجال..
أنا لستُ رجل حرب.. لم يُعدّني أبي إلا للحب والكرم.. ألا تعرفين أنني مثل أبي لا أتوسط الحلقة؟ أقف مع الصف أو خلفه متفرجاً..
لم يدعُني أحد للحضور إلا رقصك الذي لا أراه.. ودمي الذي يختضّ أكثر وأنا بعيد عندما أتخيلك ترقصين.. ما زلت أدور حول البيت والرجال وحدهم يرقصون وفكرة التنكر بزي امرأة والدخول لأراك فكرة ملعونة.. أبي علمني أن أكره المتشبهين.. وماذا لو فعلت وتم اكتشافي؟ هل تتوقفين عن الرقص احتجاجاً؟ هل ستفضحينني وأطرد كطفل مشكوك في بلوغه؟!!
هذا الدوران المرض وحده يفضحني.. أو تدرين ماذا قال أبي لهم حين حلّ الضيوف وفشلوا في العثور عليّ لاستقبالهم؟ قال: ستجدونه عند بيت الرقص يدور!! هل دار أبي مثلي من قبل؟ هل أستطيع سؤاله عن الدوران؟ عن فاعليته؟
هذا الرقص الذي لا يتكرر في أي بقعة من بقاع الأرض ممن تعلمتيه؟ أمن هيجان الخليج أم من ثورانه؟ من اضطراب موجه أم من غصون أشجار واحاته إذا داعبتها الريح؟!! ارقصي.. دعي عطر جسدك ينتشر في الجو فقد يصل إلى أنفي وأنا أدور في الخارج.. اطلبي من المغنية أن تغني أغنية طويلة ليستمر رقصك.. فإن توقفتِ عن الرقص توقفتُ أنا عن الدوران وسقطت.. قد يقول لك سقوطي على الإسفلت مكباً على وجهي: إن هذا الرقص يجب أن يكون لي وحدي.. وحدي أنا من بين كل الرجال الذين يرقصون في الخارج والذين لا يرقصون.. هل تشعرين الآن باختضاض دمي وأنت ترقصين؟ ستثرثر أفواه العجائز عن رقصك صباح الغد.. وستهمس الطالبات في مدارسهن عن رقصك والمعلمات يشرحن الدرس.. وسيتحدثن في الفسح براحة أكثر.. وأنا.. ماذا أقول عن رقصك؟ سأقول رأيتها وبادلتها الرقص على طريقة أبي.. عندما أنهاني الدوران حول البيت قال لي أبي والضيوف يستمعون: إذا رقصت العذراء خُطبت وإذا رقصت المطلقة لُعنت.. لم يشمل أبي الأرامل والمتزوجات بحكمته، ولكن عينيه كانتا تقولان لي شيئا وتخفيان أشياء كثيرة.. أبي يمارس الحكمة دائما أمام الضيوف.. لا يمارسها معي وحدي أبدا.. تُرى هل يخاف من أسئلتي؟ أم يريد أن يشهد الضيوف على تلقيني حكمه؟ أبي يا من أدميت قدميك دوراناً.. أنت تعرف أنني شهدتُ جميع أعراس أصحابي ومن هم في مثل سني ولم يبقَ إلا أنا فلِمَ لمْ تقل لي شيئاً؟! أكنت تعرف أن العذراء الراقصة هي السبب وأن شقائي يكمن في جسدها الذي ينتج عطراً.. في طهارتها التي تجعلني أدور كشحاذ حول بيتها؟!!
أبي أيها العاشق الطيب.. لم لا تدعني أجلس مع أصدقائك؟ كم كرّةً طردتني من المجلس بعينيك؟ هل كنت خائفا من أن يقولوا لي شيئا عن دورانك؟ وإذا دخلتُ عليكم بالشاي والقهوة لماذا توقفون ضحككم الجماعي وتطأطئ رأسك؟ ولماذا تمنعني من صب الشاي والقهوة؟ وهم لماذا يساعدونك بعبارات مستهلكة: اذهب لتذاكر دروسك أفضل لك..؟!!
وأنتِ أيتها العذراء الراقصة.. متى تكفين عن الرقص للنساء وترقصين لي وحدي؟ ألا تعرفين أن الرقص يعبر عن الحب؟ تعالي نقضي العمر رقصاً وغناءً.. خدعوكِ بقولهم رقص العذراء أفضل.. فالعذرية بعد الثلاثين تفقد معناها ولا يبقى إلا أطلال ذلك المعنى..
ظللتُ أدور حول البيت أمنع قدوم أي رجل حتى لا تتحقق حكمة أبي..




* عن جريدة الرؤية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى