محمد ديبو - العنف الرمزي ضد النساء

(إلى كل الأمهات السوريات اللواتي لم يُسمح لهن بالحزن كما يجب)

لم يُبارح وجهها مخيلّتي مذ رأيت صورتها، وهي تحمل ورقة كُتب في بدايتها: “أنا المواطنة سوريا حبيب علي والدة الشهداء…”، تتلوا اسم ستة من أبنائها، حصدتهم الحرب السورية، وهم يقاتلون إلى جانب الأسد.

حزن الأمهات القاتل، والقافز فوق حدود الاستقطاب السوري، الوجه الغائر، الصمت الذي يتكلّم، شبح امرأة لم يعد يعيش لأجل أحد، بل يجتر أحزانه، الفقر المقيم في الثوب والروح والجسد النحيل الشاحب… هذا بعض ما تقوله الصورة التي كان يتداولها أنصار الأسد على صفحاتهم، مرفقة بعبارات التفخيم والتأليه والتبجيل للأم التي لم “تبخل” بأبنائها في سبيل “عزّة الوطن”، فيما وجه الأم الحزين والمتهالك يقول غير ذلك: أخذتم أبنائي، وانتهكتم عمري، ودمرتم فرحي، وتركتموني سلعة حزن، تتاجرون حتى بموت أبنائها، ولم تدعوني أحزن، كما يليق بأمّ أن تحزن على مرض ابنها، فكيف بفقدانهم كلّهم، وعددهم: ستة! ستة يا ألله… حملت بهم، عشت لحظات حملهم وولادتهم، وفرحهم الأول، ونطقهم الأول، وشهادتهم الأولى، وعشقهم الأول، ولم يخطر ببالي -يومًا- أن أشهد أواخرهم، لأبقى في آخري دونهم، وسط من يتاجرون بنا؛ لطلب المزيد من الموت.

لم يكن الانتهاك في موت الأبناء فحسب، بل في ذلك الطلب المتزايد من الأمهات تقديم المزيد من القرابين، وفي التمجيد لـ “أم الشهيد”، الذي يخفي خلفه جشع السلطة وفجورها، عطش الحرب وأوراها، روح خسيسة تجمّل الشهادة؛ كي يبقى “المئة الكبار”، إنها روح الدكتاتورية التي تؤدلج الموت بعد الموت، طمعًا بالمزيد من “الشهادة”، فلا تسمح للأم أن تحزن أو تعترض على هذا الموت، بل عليها أن “تفخر” وتقدّم المزيد، فهي أم ولّادة للموت لا للحياة.

تبدو الصورة، والإعلام هنا، أشدّ انتهاكا من الموت نفسه، تنتزع الأم من خلوة حزنها لتقول ما تريده، فالصورة -هنا- رسالة يراد منها أدلجة الآخرين، وتحفيزهم لمزيد من الموت.

وعلى الرغم من أنّ التدقيق في الصورة يقول عكس ذلك، فحزن الأم الحقيقي، وانكسار عينيها، وعجزها عن رفض هذا التصوير المستبد لروحها، مفضوح وفاضح، إلى درجة التناقض. ولكن هذا لا يهم الدكتاتورية، ولا آلة إعلامها المهجوسة بالتحشيد للموت، وهو ما تبيّنه الصور والمقاطع المصوّرة لأمهات (غالبًا تُستخدم النساء لا الرجال لمثل هذه الصور والمقاطع) يتحدثن عن أنّ أبنائهن فداء الوطن، وأنّها قدّمت الأول، وهي على استعداد لتقديم الثاني والثالث… وغالبًا ما تُرفق المقاطع بموسيقا ومونتاج؛ ليؤدي مهمته في الحشد والترويج لهذا الموت، فعين الكاميرا/ الاستبداد ليست مسلّطة على هذه الأم وحدها، بقدر ما هي مسلّطة على أمهات أخريات؛ كي يحذون حذوها، في رسالة تخويف لمن يرفضن الموت بـ “اسم الوطن”، أو يتلكأن في إرسال أبنائهن للموت، فيما “الوطن” يناديهم؛ لتلبية “نداء الواجب”.

على الضفة الأخرى من الثورة، ليست الأمور جيدة أيضًا، لجهة العنف الرمزي المخبوء، الواقع على النساء، إذ أخذت الثورة كثيرًا من الرجال إلى أتونها، دون أن يفكر أحد بمصير النساء والأولاد الذين وجدوا أنفسهم -فجأة- بلا معيل أو حاضنة، أو حتى بيت، فلم يترك لهم الحرمان أو التهجير أو الجوع فرصة للحزن على من فقدوا، فلا وقت للحزن حين تصرخ أفواه الجياع مطالبة بلقمة الخبز، وحين يقرص البرد الجسد، وحين تغيب أبسط مواد الحياة، فالحزن هنا مؤّجل، بعيدًا عن أعين الأطفال إلى زمن آخر قد لا يأتي، أو إلى لحظة ينفجر فيها البكاء دون سابق إنذار، وفي غير مكانه أغلب الأحيان، ينفجر بدافع الشعور بالقهر والعجز، لا الحزن بالضرورة، وليس لأهمية الرجل في حياة المرأة -بالضرورة- أيضًا، بل لأنّه مجرد “فزاعة”، كما قالت إحدى النساء التي كانت تشتكي من هجر زوجها لها، على الرغم من أنه لم يكن مفيدًا لها بشيء، وحين سئلت عن تفسيرها لهذا التناقض، أجابت بأنّه كان -على الأقل- “فزاعة يردع الآخرين عني”، وهو ما دفع أحد الفنانين السوريين لتخليد هذا الكلام في لوحة له.

غالبًا، ما تصادفنا على وسائل التواصل الاجتماعي مفردات من نوع “أم المعتقل” “أخت الشهيد”، في حين نادرًا ما نجد عبارات من نوع “أخو المعتقلة”، أو “أبو الشهيدة”، على الرغم من أن النساء السوريات لم يبخلن أبدًا بتضحياتهن في سبيل الثورة قطّ، فالمرأة دائما ثانوية في المشهد، الصفة الأساسية للرجل، فيما هي تُقدَّم ملحقة به، فهي أخت “ه” أو أم “ه”، فيما هو البطل/ المركز.

على الرغم من كثرة وقسوة العنف المباشر والجسدي، الواقع على النساء السوريات، إلا أنّ هذا العنف يبقى مرئيًا وملاحظًا، وتحت المجهر، في حين يبقى العنف الرمزي الأقسى؛ لأنّه المسكوت عنه والمغيّب، مسكوت عنه بتواطؤ السلطة الذكورية، على ضفتي المعارضة والموالاة، الاستبداد والثورة، ومغيّب؛ لأنّ آثاره غير ظاهرة، تحفر عميقًا في الروح لتنفجر فجأة، والأكثر قسوة أنّ العنف الرمزي ضد النساء صادر عن سلطات بعضها يدّعي الثورية، فيما وعيه الحاكم تقليدي محض؛ ما يعكس بنية الوعي التقليدي التي توّحد النظام والمعارضة في كثير من الأحيان، فهما يختلفان سياسيًا، ويتوّحدان اجتماعيا وفقهيًا (مع اختلاف نوع الفقه)، والأثر الأكبر من وعيهما هذا يقع على النساء، فضلًا عن كون الوعي هذا، هو الأسّ الأساس للعنف ضد النساء، رمزيًا وجسديًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى