محمد لفتح - كلاب ورجال.. ترجمة عبد الرزاق أوتمي

يوميا، خلال ساعة المشي الصباحية، الأقربِ إلى النزهة، ألتقي بانتظام، وبفارق زمني ضئيل، جماعتين من الكلاب، أرستا تعايشا سلميا فيما بينهما وبين ساكنة الحي، وتتفرغ كل منهما، تحت قيادة ذَكَر مهيمنٍ، لشؤونها.
مع ذلك، في الأيام الأخيرة، صارت رؤية هذه الكلاب الأليفة، الباحثة عن طعامها، المتزاوجة أو اللاعبة، توقظ في ذاكرتي، كل مرة، عناوين كتب قرأتها، تلعب أمثالُها فيها دوراً مخيفاً.
أول عنوان حضرني، كان لرواية روسية نشرت منذ زمن: "روسلان الوفي" والتي لم أعد أذكر اسم مؤلِّفها. روسلان، الشخصية الرئيسية في هذه الرواية، كلب حراسة صار، بعدما سُرِّح، إثر إغلاق مركز الاعتقال حيث كان يحرس المساجين، مع آخرين من أمثاله، يتردد على المحطات ويرهب المسافرين، الذين يحسبهم مساجين سيجري ترحيلهم إلى أحد المعتقلات.
الرواية الثانية: "حارث المياه"، كانت أحدث (2000)، ومُنحت مؤلفتُها، اللبنانيةُ هدى بركات، جائزة نجيب محفوظ. أحداث الرواية تدور بداية الحرب الأهلية اللبنانية، حين كان المركز التاريخي لبيروتَ محاصرا تتناهبه ميليشيات متناحرة. مركزٌ تحوَّلَ، بتعاقب السنوات التي دامتها الحرب الأهلية، من منارة ثقافية مشعة على المستوى العربي، إلى منطقة منزوعة السلاح تتقاسمها الميليشيات وجماعات كلاب صارت متوحشة.
حضور الكلاب حتمي في النكبات والكوارث الطبيعية والأوبئة والحروب الأهلية. في رواندا! يقطعون الجثث التي فصلت أيدي بعضها بالساطور. أَوْفَى أصدقاء الإنسان ينهشه تحت شمس إفريقيا. يُرهِبُه. بالأمس، في معتقلات سيبيريا، واليوم (2006) في سجن "أبو غريب" (هذه الكلمة، "غريب"، تعني في نفس الوقت "أجنبي" و" غير مألوف")، وفي معتقل غوانتنامو الذي يديره الأمريكيون.
وليست أحداث الساعة، كما يقال، وحدها ما يمدنا بهذا الكم من الأمثلة لما يمكن أن يصيره الكلب. لقد أهدى تزفيتان تودوروف دراستَه:" غزو أمريكا" إلى امرأة من المايا، لم يُشَر في الحديث إلى اسمها، تركها الغزاة الإسبان، وهي حامل، لمجموعة من الكلاب، جُوِّعَتْ عن قصد لأيام.
حراس شرسون، متوحشون، يتقاطعون في ذهني مع الكلاب الأليفة المهرولة في اصطفاف، والتي ألاقيها أثناء جولاتي الصباحية. وتساءلت: كيف ستتصرف هاتان المجموعتان، اللتان صارتا جزءً لا يتجزأ من العادي، إذا ما أصابت هذا الحيَّ، بفيلاته الزاهرة المخضرّة، فجأةً مصيبةٌ ؟
هل تجوز معاتبة الكلاب إن هي صارت متوحشة، تكشر عن أنيابها لترهب الإنسان وتنهشه؟ أليس هو السبب في وحشيتها؟ أيهما كان أكثر "كلبية" من الآخر؟
وبينما أنا خائض في هذه التأملات الوعظية المندِّدة، اعترضتني، عند منعرج زقاقٍ خالٍ، فُرْجَة مألوفة، جذابة ومقرفة، في نفس الوقت. إحدى المجموعتين انخرطَتْ في إحدى أحب شهواتها: الجنس الجماعي. يركب الذكر المهيمِن أنثى تاهت في هذه النواحي، بينما الآخرون، ينتظرون، بألسنة متدلية، دورهم.
هذه الفرجة العادية هي ما أيقظ فيّ الذكرى، وخفّف من دعاوايَ الوعظية. تذكرت فجأة أني أنا أيضا كنت يوما ما كلبا في مجموعة: متدلي اللسان، كبقية أعضاء المجموعة الذين كانوا ينتظرون دورهم.
كان "ذَكَرُنَا المهيمِن" يمسك، بيد مُشَعَّرَةٍ ومتحكمة، اليد البيضاء الناعمة لفريسة طيِّعة. نحن الآخرين، كنا، أربعتَنا، نَتْبَع، مُصْطَفِّين، هذا الزوجَ الذي يخاله المرءُ خطيبين من نفس السن. وصلنا إلى الگراج المهجور حيث كانت مراسيم الافتراس ستقام.
كانت صرخات الفريسة الملقاة على البطن وتأوهاتُها تتداخل حين تُوطأُ، لكنها سرعان ما تُخنَق باليد التي يطبقها أحد كلاب المجموعة على فمها. تحاول الفريسة الزحف على الأرض لكن المحاولة تنتهي بالفشل. يتقدم كلب آخر ويُثبتها بشدة وهو يشدّ على عقبيها بين قائمتيه الخلفيتين. منذئذ صارت كل صرخة أو تأوه، كل تملص، مستحيلا. ترك الذَّكرُ المهيمنُ – كنا نلقبه "عَتْلَة"، وتعني المعول، إذ كان يُسَمِّي هكذا، بافتخار، عضوَه الضخم – لأتباعه، على سبيل الوليمة، فريسة نازفة، متأوهة ونصف مغمى عليها. ولما حان دوري، أخيرا، لم تعد القطعة المختارة، التي أسالت لعابنا، وتدلّت لها ألسنتنا، ومنذ مدة، سوى جرحٍ مخضب بالدم يثير الشفقة. دون أن أشارك في الحفل، خرجت من الگراج، مغتاظا، لكن في نفس الوقت مرتاحا.
سنوات بعد ذلك، وبمحض صدفِ كونتوارات الحانات، التقيت، واحدا واحدا، أعضاء المجموعة التي انتميتُ إليها ذات يوم.
الكلب الأول، الذكَرُ المهيمن، ذاك الذي كنا نلقبه بالمعول، لم يعد سوى حطامٍ: فمٌ بأسنان مسوَّسة، بشرة شاحبة كالشمع، ويد سكير راجفةٌ.
الكلب الفنان، ذو الملكات الواثقة والواعدة، يبدو أنه نسي أنّ هناك فنا اسمه النحت. ومع ذلك، حين كنا في السنة الثانية الثانوية، كان قد نحت على البرونز رأسا رائعة لجيمس داين. أستاذُ التاريخ، (كان، على الأصح، حاكيا رائعا بالنسبة إلينا)، أُعجِبَ بصنيع صاحبنا، ونصحه أن يلتحق بمدرسة الفنون الجميلة. حين أُذكّر رفيقي السابق في المجموعة بهذا (في كل لقاء، ودون أن نتداول في الأمر، كانت تلك المجموعة تلقي بظلالها على الحديث) يرفع ذراعه في الهواء، ويكتفي بالقول: "عندنا…"، ودون أن ينهي جملته يطلب من النادل "جُوجاتْ عَرْگاناتْ": بيرتين باردتين. أجد لهما طعما مرا.
كان الكلب الثالث يعيش حياة خاملة في أحد مكاتب الجمارك. وحده الرابع كان يبدو محتفظا، في نشاطه المهني، بأثر من حياته السابقة. كان يعمل بيطريا في حلبة سباق الكلاب، ويسعى إلى تحسين الفصيلة المحلية من كلب السباق: السلوقي. غير أن من الراجح جدا أن يكون ممن لا يؤمنون البتة بتناسخ الأرواح.
الخامس؟ أقول، إني قابلت – بما أن الأمر يتعلق بي، أنا الكلبَ الخامسَ – يوما، بعد الأربعة المفترِسين، الفريسة التي كانت ضحيتهم. ليس في حانة، لكن في وكالة أسفار. بينما أنا واقف في الطابور أمام شباك الاستعلام، بدا لي فجأة أني أعرف الموظفة المكلّفة فيه. لم أكن أرى إلا الشق المختفي. الوجهُ الممتدُّ ذاتُه، الأنف المعقوف ذاته، الشفتان الحادتان كشفرتي حلاقة، هذا الشحوب في الوجه لفتاة مصابة بفقر الدم! ثم أدارت فجأة رأسها نحوي والتقت نظراتنا، رجف قلبي في صدري رجفة: هاتان العينان اللتان تلاحقانني، واسعتين من الدهشة! نفس العينين الحزينتين، المتوسلتين، لجرو مضروب، مضطهد، بلا رحمة، على يد مجموعة متوحشة. تظاهرتُ بعدم التعرف على الجرو الصغير الذي يلاحقني بهذه النظرات غير المحتملة، وأسرعت إلى باب الخروج.
لم تكن وكالات الأسفار ما ينقص وسط مدينتنا البيضاءِ الجميلة.



L’image contient peut-être : 1 personne, lunettes
أعلى