على السيد محمد حزين - مقطع من نون النسوة.. قصة قصيرة

رأيتها ... نعم رأيتها بعد عشرين عاماً , مرت كالسحاب لم ُتغير فيها شيء .. النظرة .. نفس النظرة .. الخطوة نفس الخطوة .. الضحكة .. القدُّ الجميل .. الحركة المشية .. قصة الشعر .. " المكياج " .. التسريحة الجميلة .. العطر الصارخ .. الفواح .. الـ ......... وكأن شيئاً فيها لم يتغير ....
كل شيءٍ فيها جميل كما هو لم يتغير .. وكأن القدر رتّب لنا هذا اللقاء العابر من بعد ما انقطعت بيننا الأسباب .. ويئست من رؤيتها .. وكدت أنساها نهائياً ....
إلا أنى اليوم رأيتها , واقفة أمامي , حقيقة لا خيال .. كما كانت تقف زمان ....
في نفس المكان .. بلهفة وشوق , وترقب , لقدومي .. تنظر في ساعتها .. وهى مرتبكة .. متوترة .. قلقة .. وخائفة من أن لا أتي إليها .. في نفس الميعاد .. وفى نفس المكان .. وحين تراني قادم من بعيد , تبتسم .. وتقبل عليَّ .. يااه على الزمن الجميل .. لكم هي الدنيا صغيرة جداً حقاً ".....
ما انفكت الذاكرة , الضعيفة عندي أحياناً , تحتفظ بنسخة واضحة وقوية, تحمل كل تفاصيل حكايتي معها .. وأول يوم التقينا فيه .. مازلت أذكر ذلك اليوم البعيد ....
" التقينا ذات صباح , على محطة القطار .. وكنت أدرس حينها في الجامعة .. وكانت تعمل في إحدى الإدارات الصحية .. وكانت الدنيا شتاءً .. والشمس ساطعة .. والجو بارد .. والصقيع يغلف الأشياء ... لكنه كان يوماً جميلاً , ومشرقاً ..".....
كل شيء مازال كما هو .. كل شيء يحتفظ بعبقه .. وكأن الزمان عاد للوراء عشرون عاماً خلت .. مازلت أذكر ذلك اليوم .....
تجاذبنا أطراف الحديث .. وتحاورنا .. فلسفنا كل شيء .. وسخرنا من كل شيء ..
ثم ضحكنا .. ولعبنا معاً .. ولهونا كالأطفال .. دون أن نأبه لأحد .. ولا نألو على شيء .. حتى الذي كان يرانا .. لا يشك للحظة واحدة .. بأننا أقرباء .. أو أحباء ....
أذكر يومها .. قالت لي .. : " أنها تعرفني جيداً , من قبل أن تراني .. وبأنها تعرف كل شيء عني .. حتى أدَقْ التفاصيل عن حياتي الخاصة .. " ....
وقالت أيضا : .. " أنا كنت أتمنى أني أراك وأتعرف عليك من زمان "..
والذي أدهشني حقاً , كانت معلوماتها صحيحة جداً , ودقيقة للغاية .. ذهلتُ لقولها وعبثاً حاولتُ أن استفسر منها عن مصدر معلوماتها .. وأستوضح الأمر أكثر .. وأردت أن أعرف سر اهتمامها .. ولما كل هذا الاهتمام المبالغ فيه تجاهي .؟!.. فرفضت أن تخبرني .. فقط اكتفت ببسمةٍ ساحرةٍ , وضعتها على شفتيها الرائعة .. وفى عينيها بريق يشع ذكاءً , وعبقرية .. ورعد , وبرق , وصواعق قاتلة .....
وبدأت الحكاية من هنا .. وبدأتُ آخذ عليها , تدرجياً , وبدأتْ نفسي ترتاح لها ..
وعرف حُبها طريقاً إلى قلبي .. الذي كنت قد أغلقته من زمنٍ بعيد .. وكتبت عليه لافتة ببنط عريض .. " مغلق للصيانة والتحسين "....
وفي ذات يوم , أراحت يدها في يدي .. وراحت تتسرب بداخلي , شيئاً فشيئا كإكسير للحياة , وأخذت تتشعب , وتتكاثر , وتنقسم بداخلي , كخلايا بكتيريا إلى ما لا نهاية في كرات دمي السابحة في شراييني ....
وبرغم أنى كنت محتاطاً جداً وحذراً .. من أن أقع في شراك الحب .. فالحب في وجهة نظري .. ضعف .. ومذلة , ومهانة , ما بعدها مهانةٍ .. ولا أحبُ أن أرى نفسي .. في هذه الصورة المذرية , المهينة , المؤسفة .. وهذا الموقف السخيف .. لذالك كنت أخاف , وأهرب , من أي عيون جريئة كانت تقابلني .....
وفلسفتي في الحياة , وشعاري هو ..
" أن الحب ــ وذلك من وجهة نظري الخاصة طبعاً ــ أكذوبة كبرى .. من صنع الإنسان .. ليبرر بها أغراضه .. ونزواته الحيوانية الدنيئة .. "....
إلا أنى أخيراً وقعت في الشرك , وفي المحظور .. أحببتها .. نعم أحببتها .. وضعفت أمامها .. واستطاعت أن تغزوني بجيوش جمالها , وأنوثتها الطاغية .. وبجدارة فائقة وراحت تحتل عرش قلبي .. بجرأة تُحسد عليها .. وسقطتْ ــ على طريقة الواحدة تلو الأخرى ــ كل قلاعي وحصوني المنيعة .. أمام جيوش أنوثتها , وفتنتها الطاغية.. وراحت تتقدم إلى أبعد نقطة في سويداء القلب , لتعسكر بفتنتها , في كل كرات دمى .. وتحتل كل كياني ....
أنا في البداية قاومت .. نعم قاومت , وبكل قوة , وشراسة المقاتل والمحارب النبيل لكنى وبصراحة شديدة فشلت .. نعم فشلت فشلاً زَريعاً .. وانهزمتُ .. هزيمة نكراء أمام امرأة غير عادية .. ليست ككل النساء .. امرأة قد جمعت فيها السحر والجمال .
وكأن الله قد جمع فيها كل فتنةٍ للنساء .. وكل مكرٍ ودهاءٍ لبنات حواء ...
" تخالها إن رأيتَها .. امرأة غريبة الأطوار , عجيبة امرأة لا تقاوم , استثنائية , تخلع القلب , واللب , بفتنتها , وخفة ظلها, وسحر جمالها الطاغي , فهي بجد امرأة تفوق الحد والوصف ــ من وجهة نظري ــ روحها صافية , جميلة , وجذابة , مرحة , مثقفة .. تمتلك قدرة فائقة في تحوير الكلام .. وتحويل الحوار في أي اتجاه ذكائها غير عادي , لدرجة أنها كانت تقرأ ما يدور في رأسي من قبل أن أتكلم معها تنتقي كلامها بدقة , وعناية فائقة .. هالتها النورانية .. تتسرب إلي أعماق الأعماق وتنفذ شيئاً فشيئاً ــ كحبات الضوء التي في عينيها , وكعطرها الفواح الأخاذ ــ إلى كل ممرات القلب , والعقل " ....
أنا في البداية .. لم أصرح لها بشيء من ذالك .. أما هي فقد صارحتني بحبها لي .. على الرغم أنها سألتني أكثر من مرةٍ , وكانت تلح علي في كل مرة , إن كنت أحبها أم لا , ــ أتحبني ..؟! ....
في البداية .. كان السؤال صعب , بالنسبة لي .. وكان سؤالاً جريئاً مثلها .. وكان مفاجئاً .. وأصعب منه كانت الإجابة ... وكنت أتهرب منه كثيراً ...
وكانت في كل مرة تسألني فيها .. أتصنع أنى لم أسمع شيئاً منها .. فتعيد عليَّ السؤال من جديد .. وهي تلح عليَّ , وتستحلفني أن أجيبها ... حتى جاء اليوم الذي ألقيت فيه عيناي على الأرض , وصمتُ برهة , فأعادت عليّ السؤال من جديد وبطريقة أخرى .. تختلف .. ــ أتحبني مثل ما أنا أحبك ..؟!..
ثم أمسكتْ بيدي واقتربتْ مني أكثر, حتى أحسست بحرّ أنفاسها , وهي تلفح وجهي فانهرت .. واعترفتُ لها , وأجبتها بقبلةٍ ساخنة , علي خدها التفاح , أودعتها كل مشاعري , فضحكت , ومالت , واعتدلت , وأخذت تطيح بيديها في الهواء .. ورجعت للوراء في انتشاء , ونشوة , حتى كادت تسقط من شدة الانبساط ....
واعترفتُ لها بحبي .. وشرحتُ لها .. لماذا كنت أتهرب منها .. وأسهبت .. وأطنبت وراحت الأيام تمر سريعاً , وتتوالى .. وكنا نلتقي تقريباً شبه يوميّ .. نتحاور في كل شيءٍ .. ثم نلعب , ونضحك , ونلهو .. دون أن نأبه لأحدٍ .. ولا نألو على شيء حتى الذي كان يرانا .. لا يشك للحظة واحدة بأننا أقارب .. أو أحباء ....
وأنا تارك لها نفسي .. وقلبي .. لكي تتصرف فيهما كما تشاء .. وراحت تضغط على نقاط الضعف بداخلي , أزرار مخفية لم يحن الضغط عليها بعد .. وتعزف على أوتارٍي .. وتضيء بداخلي كل المصابيح المطفأة .. وتفتح كل النوافذ المغلقة .. وتعبث بكل مفاتيحي .. لتغير كل خرائطي التكوينية .. حتى صرت كالطفل الصغير بين يديها .. تلهو به كما تشاء .. وهو لا يحب غيرها .. ولا يستطيع الاستغناء عنها وهو يحب النوم على صدرها النافر .. حتى جاء اليوم الذي فوجئتُ فيه بأنها كانت تلعب بي .. وبأنها كانت غادره .. خائنة .. تعشق رجلاً أخر غيري .. لا , لا , بل كانت متزوجة برجلٍ آخر ....
وبأنها امرأة مطلقة , وليست عذراء , كما كنت أظن .." يا للهول".. ومعها طفلان وتبحث عن فريسةٍ , كبش فداء ليس إلا .. كي تضرب به طليقها .. وتنتقم منه , وترد له القلم قلمين , والصاع صاعين .. فهو قد خانها , وتزوج بصديقتها .. وتركها .....
وكانت تخبئ عني كل ذلك .. وحين علمت ذلك ليلتها لم أنم .. وبتُّ بأسوأ ليلةٍ وأشرها وظلْتُ طول الليل , أعاتب نفسي , وأوبخها .. وأعنفها .. تارة أضحك على نفسي , وتارة أخرى أبكي .. وأهذي .. وأكلم نفسي كالمجنون ....
وأخذتُ أفكر , وأفكر , ضارباً أخماساً في أسداسٍ .. حتى مطلع الفجر .. ثم اتخذت قراري النهائي , بيني وبين نفسي .. عزمت على أن أتركها , وأنساها نهائياً .. وأهرب بجلدي منها , وأخرجها عنوة من كل ذراتي .. ومن بين نبضات قلبي .. وأنفاسي ومن عقلي , ومن كل حياتي , حتى ولو تطلب الأمر .. بأنها لو لم تخرج إلا بروحي .. لأخرجتها ....
ورحت أبعد عنها , وأنسلَّ منها .. وأخالف طريقي , حتى لا أراها , وتراني ثانية فأحن إليها .. وأضعف .. وأعود إليها ثانية ....
وأنشأتُ علاقة أخرى مع امرأة غيرها .. لعل وعسى أن أنساها .. فلا ينسي المرأة إلا امرأة أخرى .. وجربت كل الطرق .. وكل الوسائل الممكنة , والغير ممكنه حتى أنساها .. وأتخلص من هواها .. لكنى فشلت .. نعم .. أعترف .. فشلت , فهي متغلغلة في كل ذرة من ذرات جسدي , فقد صارت بالنسبة لي .. كالإدمان المزمن ..
أما هي فكانت تطاردني في كل مكان أتواجد فيه حتى أنها كانت تأتيني في اليقظة , وفي المنام ترجوني بأن أسامحها.. فكنت أقاومها , وأهرب منها , حتى تعبتُ .. ومرضتُ , مرضاً شديداً .. وذهبت لأكثر من طبيب .. وبعد الكشف والإشاعات .. والتحاليل .. قالوا لي : ..
ــ لا شيء فيك , مرضك غير عضوي .. أنت مريض نفسياً ....
عندئذٍ أدركت بأني لا أستطيب البعد عنها , وبأنها قدري المبرم , والمحتوم .. فقررتُ أن أرجع لها , وأرتبط بها مدى الحياة .. مهما كانت التكلفة ومهما كانت الأسباب , وليكن ما يكون .. وذهبت إليها , وأخبرتها بذلك ....
في البداية رحبت , وفرحت جداً .. ثم ما لبثت أياماً حتى غيرت رأيها .. وبدأنا ندخل في دوامات , ومشاكل معقدة .. وبدأت تقابلنا العراقيل .. والشكليات , والرسميات , وصُدمنا بالواقع المرير .. لكن وعلى الرغم أن أهلي رفضوا هذا الارتباط .. واعتبروه عيباً , ومسبة , ولم يوافقوا عليه , أو يباركوه , إلا أنى صممتُ , وقررت , الهرب معها إلى مكان بعيد .. وليكن ما يكون .. وعرضت عليها الأمر .. في البداية وافقت لدرجة أنها أعطتني قسيمة الطلاق .. وهويتها .. وقالت لي :
ــ " هيا بنا نكتب الكتاب في المحكمة .. أو عند أي محامى )) وعند الموعد .. خالفت , ورفضت , وبشده .. ثم انقطعت عنى أخبارها بعد ذلك .. ولم أراها ثانية .. فأخذت أبحث عنها , وأفتش في كل مكان كالمجنون .. وأسأل الأهل والجيران .. وأبحث عنها في كل مكان .. وأسأل كل من يعرفها .. لعلي أقف علي خبر , وأعرف مكانها ــ
وفي النهاية عرفت بطريق الصدفة البحتة .. بأنها قد تزوجت , في بلدٍ بعيدة , من إنسان أخر غيري لا أعرفه , ولا يعرفني ....
قالوا.. : " أغراها بالمال .. وأغدق عليها ببذخ .. فوقعت فيه , ووقع فيها .. وقالوا ضحكت عليه فتزوجها .. وقالوا ... وقالوا ... وقالوا ......
وأنجبت له ثلاث أطفال .. وأما أولادها من طليقها .. فقد أعطتهم لأبيهم .. وهى التي كانت .. تحارب من أجلهم .. وتتمسك بهم لدرجة الجنون .. قد تخلت عنهم " وتخلت عنى أنا أيضاً .. وبكل سهولة ويسر .. وأبت أن تكون لي .. وكانت لغيري..
وها هي اليوم , واقفة أمامي .. تكلمني , وأكلمها , بشحمها ولحمها , لم تتغير .. ولم يغير الزمان فيها شيء , نفس النظرة .. الضحكات .. الساحرة .. بريق العينين نفس الوقفة المشية .. الـ ......
ودار بيننا حوار مقتضب .. وقصير جداً .. وراحت تسألني عن حالي , وأحوالي وعن أخباري .. وكيف كانت حياتي بعدها .. وإن كنت قد تزوجت أم لا .. و .. و...
كل هذا أمام مرأى ومسمع من الناس .. وكأن الزمن قد عاد إلى الوراء عشرون عام .. وكأن كل شيء لم يكن .. وهى تقف تكلمني .. ولا تخشى من أحد .. ولا تألو على شيء , وأنا واقف أمامها .. غير مصدق بأني رأيتها مرة أخرى .. وعقلي .. وقلبي .. وروحي .. انطلقوا يسبحوا في الفضاء بعيداً .. وكدت أطير في الهواء .. لفرط سعادتي بلقائها .. ونسيت المكان .. ونسيت الزمان .. ونسيت الذي كان .. حتى أني نسيت نفسي .. و .......
******
تمت 1/3/2004

على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى