عبدالعزيز بركة ساكن - اليَرَاعَة.. قصة قصيرة

نَحنُ من أسرةٍ معروفةٍ بأن أفرادها يقومون بعد الموت بثلاثة أيام. لذا عندما ماتت أمي - عليها الرحمة - لم ندفنها ولم نُعلن عن ذلك. وضعناها في حُجرة داخلية بعيداً عن الضوء والمتقولين من الجيران وسُكان المدينة وأطفال الأسرة. وفي اليوم الثالث، عند منتصف الليل، نهضت من موتها، تقلبتْ على الفراش قليلاً، عَطست عطستين عظيمتين ثم وقفتْ على رجليها.
تمطتْ مثل هِرةٍ سئمت الرقاد الطويل، ثُم طلبتْ أن يأتوها بماءٍ حار للشُّربِ، وآخر للحمامِ. وكُنا قد جهزنا لها الماء الساخن مخلوطاً بالزيت والمُلح وبعض العُطور البلدية، وماء الشُرب الذي يجب أن يُعد بالنعناع والقرض يحتاجه الذين حيوا بعد الموت.
لم يكنُ خبر موت أمي غير معروف لدى سُكان المدينة. فلقد ماتت موتاً مشهوداً عند باب المدرسة، حيث أنها تعمل معلمة للغة والأدب الإنجليزي في المرحلة الثانوية.
وبينما كانت تخرج من المدرسة في صُحبة بعض المعلمات، إذا بثور هائج يهجم عليهُنّ، ونسبة لإعاقةٍ قديمة في ركبتها فإنها لم تستطع الهروب كما فعلت المعلمات الأخريات. فأصبحت أمي ضحية سهلة للثورِ الهائج. بنطحةٍ واحدة في صدرها ألقاها أرضاً، وعندما أُخذت للمستشفى كانت جثة هامدة.
قال لنا الطبيب:
- لقد مَزَّق قرنُ الثورِ قلبَها.
في العادةِ يتمُّ دفن الموتى في المدينة في نفس اليوم، نسبة لسخونةِ الجو، فإن الموتى يتعفنون بسرعة، كما ان هنالك مقولة شائعة يحترمها الجميع وهي: إكرام الميت دفنه.
أتى الناس من كل صوبٍ وجهةٍ، للعزاء وحفر القبر وإعداد الميت للدفنِ. وخوفاً من الفضيحة، لم يخبر عمي الرجال المستعجلين على الدفن في أمر أننا سوف لا نقوم بدفنها إلّا في اليوم الثالث إذا لم تنهض من الموت.
ولا أظن أن الأمر سيكون محرجاً او غير مقبول او مستهجناً. فكثير من سُكان المدينة التي نعيش فيها هم نسل ما يُسمى تيراب البنيّة. أي أنهم من ذرية امرأة في الزمان الماضي، تركها والدها من أحد أنبياء الله إلى أن يعود من الحج الذي يستغرق سنوات كثيرة. ولكن البنت توفاها الله بعد شهور قلائل من إقامتها مع النبي، وعندما عاد الأب أخبره النبي بأن الله قد توفاها. ولكن والدها قال له:
- سلمّتك إبنتي حيّة كأمانة. عليك أن تردّها لي حيّة، ولا أقبل بغير ذلك، فإذا كنت نبيّاً بالفعل، قل لربّكَ أن يعيد لي بنيتي كما هي!.
فغضب النبي غضباً شديداً، وطلب من ربّه أن يعيد البنيّة للحياة. وعندما إستجاب الرب وأعادها إلى هيأتها الأولي اي كما كانت في اليوم الذي تركها فيه والدها، رَبَتَ النبيُ على رأسها مخاطبا والدها:
- جعلنا كل نسلك من تيراب هذه البُنَيَّةْ إلى يوم القيامة.
ويقصد نبي الله إن كل ذريتها ستنهض من الموت. وشاء الله أن نكون نحن من ذُريّة هذه البنيّة وغيرنا بعض الملايين من البشر منتشرين على الأرض، في كل بلاد العالم لنا أقرباء دم ينهضون من موتهم في اليوم الثالث.
أخبر أبي الرجال المتعجلين للدفن، بأننا لا ندفن الموتى إلّا بعد ثلاثة أيام، وسنقوم بذلك بأنفسنا. وشكرهم على هِمّتهم وإستعدادهم للمساعدةِ ثم صرفهم.
في اليوم الثالث عند منتصف الليل تجمّعت كل الأسرة حول أمّيْ. كان عليها قبل أن تغادر أن تقول شيئا للأسرة. لأنها سوف لا تعود مرةً أخرى، وقد لا نلتقي بها ربما إلّا بعد الموت. وكان ما يثير فضولي:
- أين ستذهب أمّيْ الان، أين ستعيش وكيف ومع من؟؟ فسألتها
قالت لي:
- سوف تعرف بنفسك، لا تتعجل، ستذهب إلى حيث أذهب اليوم، وستجدني.
ثم خاطبت الأسرة قائلة:
- " الحياة قصيرة جداً. وستكتشفون ذلك في لحظات الموت. يبدو الزمن قصيراً جداً أو إنه يتقلص وينكمش على نفسه. الثانية الواحدة تعادل كل ثروات الدُنيا، تعادل كل الوقت الذي يقضيه الإنسان على الأرض، ولا يمكن أن يحصل الشخص على لحظة من الوقت.
الزمن هو أغلى شيء في هذه الحياة. إنه الحياة نفسها، ترونه الان ممتداً ولا تفعلون فيه شيئاً وكأنه سيستمر للأبد رخيصاً بل متاحاً بالمجان!.
في لحظة النزع الأخيرة لا يمكنك أن تشترى دقيقة واحدة لتقول فيها شيئاً، ثانية لتسحب فيها قدراً ضئيلا من الهواء، لا تستطيع أن تمد حياتك أبداً!.
يتخشّب كل شيء، وينسحب الزمن آخذاً معه النبض والعقل والجسد والروح: أوصيكم خيراً بالزمن، افعلوا ما تقدرون عليه الان!"

نَهضتْ. وضعت على كتفها حقيبة الظهر المصنوعة من جلد الماعز وهي عبارة عن قربة صغيرة بداخلها بعض الملابس والنقود ومشغولات من الذهب. وطلبت أمّيْ - وهذا من الغرائب - أن تحمل معها كتاب مختارات من الشعر الانجليزي حيث أنها كانت مغرمة بالشاعرة إميلي دكنسون، وكتاب الأعمال الكاملة للشاعر الأمريكي e.e commings . خرجتْ عبر البوابة الخلفيّة بعد أن ودعتنا واحداً واحداً بالأحضانِ. كان جسدها بارداً كالثلجِ، وتفوح منها رائحة غريبة. أظنها رائحة الأموات، وبعينيها الطيبتين بقايا دموع، وفي شفتيها إبتسامة صغيرة باهتة.
خرجتُ خلفها، لقد قررتُ بيني وبين نفسي أن اتبعها حيثما تذهب. ليس لأنني أحبها، نعم أحبها فهي أمّيْ، ولكن أريد أن أعرف إلى أين يذهب الموتى من تيراب البنيّة عندما ينهضون من الموت وعلى أكتافهم جراب مصنوع من جلد الماعز محشواً بمتعلقاتهم!.
كانت تمضى بخطواتٍ سريعة جداً، في نشاطٍ وهِمّةٍ،وعلى ظهرها حقيبة الجلد. وكأنها لم تكن ميّتة ثلاث ليالٍ كاملة!.

إلتزمتُ مسافة جيدة بيني وبينها حتى لا تراني، لأنه من المحرّم إتباع الذين يعودون من الموت، وهذا عُرف يتبعه جيِّداً كل أفراد سُلالة تيراب البنيّة. كانت خُطواتها شاسعة لدرجة أنني إضطررتٍ على الجري وراءها حتى لا تغيب عن عيني، خاصة أن الضوء كان شحيحاً جداً والظلام دامساً. خرجنا من حدود المدينة إلى المفازة الشاسعة التي يستخدمها الرُعاة في الموسم المطير كمسرحٍ لأبقارهم، ولكنها الان خالية تماما وجرداء في موسم الشتاء. حيث ينتقل الرعاة في صُحبة مواشيهم جنوباً متبعين العُشب والماء.
توقفتْ فجأة. كانت تبعد عني قُرابة الخمسين متراً، فتوقفتُ أنا أيضاً. عندما طالت وقفتها، جلستُ على الأرض حتى إذا حانت منها إلتفاته فلا تراني.
لاحظتُ شيئاً غريباً يحدثُ، وهو أن جسدها أخذ يطول ببطءٍ، وحجمها يصير أكبر، وهنالك ضوءاً أخذ ينبعث من رأسها. بدأ ضئيلاً مثل شرارة، ثم كبر كشعلةِ ثقاب، ثم أصبح في حجمِ فانوسِ إضاءة فاترة، حينها تحركت، مضت إلى الأمام في خُطواتٍ شاساعاتٍ وسريعة، كأنها تُحلق فوق سَطح الأرض ولا تطأ الثَرى!.
كنتُ أحسُ بها تطير في خِفةٍ. هرولتُ خلفها ولكنها كانت تنسحب في البعيدِ البعيدِ البعيدِ. إلى أن لم يتبق في مجالِ الرؤيةِ منها غير الضوء الذي يصدر من رأسها، وهو أيضاً أخذ يختفي بالتدريجِ، كلما بعدتْ إلى أن إختفى تماماً، في ذلك الحين فقدتُ أثرها. فعدتُ أدراجي إلى البيت.
في الصباح الباكر. ذهبنا أنا وأبي وعمي وبعض أقاربنا إلى المقابر، حفرنا لها قبراً، وضعنا فيه كل متعلقاتها الخاصة التي لم تحملها معها، ما عدا الكُتب حيث أن أبي أراد الاحتفاظ بها في البيت.
وكان أبي أيضا مثقفاً جداً ويُحبٍّ قراءة الشعر ويجيد العزف على الكمان. وقيل إنه في صباه كان راقصاً بارعاً. تَمَّ دفن كل شيء في صمت. ثم وضع أبي شاهداً للقبر كُتب عليه اسمها وتاريخ وفاتها. وسطر من شعر e.e.commings
pity this busy monster, mankind"."

#بركة_ساكن
27 يوليو 2020
leogang

أعلى