أمل الكردفاني- الثقب الأسود- قصة

كان سقوطاً حراً، سقوطاً لأعلى، فالأرض فقدت جاذبيتها، والمرأة العجوز الشمطاء أخذت تضحك بلثة خالية من الأسنان، الساعة تراجعت إلى الوراء، كانت بقعة سوداء تغطي عيني وفي الفراغ حركت يديَّ وقدميَّ غير أن وجهي ارتطم بجدار صلد، من حسن الحظ أنه اصطدم بجانبه الأيسر، ثم وجدت أطرافي تتكسر على الأرض. مضت لحظة وفتحت عينيَّ. ساقاي كانت ترتعشان، ورأسي يدور، حتى أن الفقاعة السوداء دارت بي. واختفى كل شيء حين هبطت قطرة ماء من أعالي السماء واستقرت فوق جفن عيني اليسرى المغلقة..قطرة واحدة، لم استطع فتح جفنيَّ، سقطت قطرة أخرى على صدري ، مع ذلك لم أستطع فتح عينيَّ، سقطت ثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة وأدركت بأن عليَّ أن استيقظ مهما كلفني الأمر...لكن جسدي كان مشلولاً..ثم تكور الكون، وطار مبتعداً عن ذاته.
فتاة في الثانية عشر من عمرها، كانت ذات ثديين كبيرين، قصيرة ودميمة، آثامي وذنوبي، تصورت ذلك. ففتحت فمي وابتلعتها..ابتلعتها دفعة واحدة، ومضيت أبتلع كل شيء، الأشجار السوداء المحاطة بزرقة داكنة، والمنازل الصغيرة، وكلباً أسود، وجوقة من الممثلين في مسرح يوناني قديم، وابتلعت المسرح نفسه. إن هذا العالم خراب، تصورت ذلك غاضباً، لا يستحق الوجود..ابتلعت كل شيء في سقوطي الحر...حتى أنني ابتلعت نفسي.
....

استمع لهذا الإيقاع باستمتاع، الإيقاع الذي لا يمكن تحمله إن لم يكن خارجا من مصدره، أي عجلات القطار، وبما أن القطار لا يتوقف إلا في محطاته، كان على النازلين في أماكن سوى المحطات أن يقفزوا، فتحت باب القطار، ذلك الذي يصل بين كل مقطورة وأخرى، مددت رأسي إلى الخارج فطار شعري إلى الوراء، وامتدت السماء السوداء وسديم الظلام في الأفق وحتى تحت عجلات القطار. رأيت أشباح الناس يقفزون من القطار الواحد تلو الآخر كلما بلغ أحدهم قريته، وبما أنني لا أعرف أين سأنزل، فقد اخترت..هياكل منازل سوداء ثم قفزت..فلتكن قرية أو مصنعاً أو أي شيء، المهم أن أغامر، أن أدخل حلقة الشعور بالخوف والوحشة. رفعت رأسي ورأيت السماء بلا نجوم ولا قمر. كانت هناك غيوم فقط. فسرت في قلب الصحراء حتى بلغت مشارف تجمع البنايات الصغيرة، وقد كانت منازل صغيرة جداً..لا يصدرمنها ضوء ولا صوت، عبرت أزقتها لكن لا شيء. كم الساعة الآن؟. كانت قدماي تغوصان في الأتربة، ويتصاعد غبار عبر الظلام إلى أنفي، إنها أرض قديمة جداً، لم تطأها قدم منذ وقت بعيد. هكذا أنبأتني رائحة التراب. والسحب لا تمطر. هل هذه مملكة الشياطين؟ الساعة الواحدة صباحاً على ما أعتقد، وهذه القرية مهجورة، جاءتني إجابات للأسئلة القديمة. وقفت أمام باب منزل شاهق العلو، ثم رفسته بقدمي، فانفتح وهبط منه غبار كثيف، تراجعت حتى انقشع الغبار ودخلت إلى المنزل. كانتت نوافذه مظلمة، نوافذه تلتصق بالأرض وهي بلا زجاج،حاولت تلصص النظر إلى داخل الغرف، فلم أرَ شيئاً سوى الظلمة الخرساء. تسورت النافذة، وأخذت أسير متحسسا طريقي، غير أنني لم أصل لنهاية الغرفة، وحين التفت، فوجئت بعدم وجود النافذة. لقد اختفت وحل محلها جدار مظلم. حاولت الرجوع إليها، لكنني لم أستطع الوصول إليها، ثم فقدت شعوري بالإتجاهات تماماً. سرت طويلاً، وتصبب جسدي عرقاً، سمعت صوت المطر وهو يضرب السقف في الخارج. حافظت على اتزاني ومضيت في طريق بلا نهاية.
.....
فتحت جفنيَّ بصعوبة، وجدت جسدي ممداً على الأرض الباردة، والإسهال قد غطى ملابسي، رائحته تشبه رائحة الزبادي مخلوطاً برائحة جثة كلب نافق. أصابعي متيبسة..كان السقف أسوداً، السماء بلا نجوم كعادتها، وبلا قمر. ولكن أيضاً بلا سحب. "تحركوا بسرعة" سمعت صوتاً خشنا، صوتاً خافتاً، "إنه يبحث عن أمه" صوت آخر قال ذلك، "إنه لن يتوقف عن البكاء إن لم يجد أمه" ميزت صوت جدتي..وشعرت بقطرة دمع تهبط من عيني اليسرى، عيني اليسرى التي تهتم بكل تفاصيل شعوري الداخلي. والمصباح الأصفر الشاحب كان معلقاً في جدار حجري، ومن حوله تتقافز الحشرات وفراشات النار.."عادت الكهرباء" صوت امرأة، "توقف عن البكاء" صوت جدتي. أين أمي؟ أريد أمي.."عاد للبكاء مرة أخرى"..وبدأت أسقط..أسقط في عماء محض.
....

جسدها قريب من جسدي، ساخن، رغم التكييف الذي يضغط على فراغات الغرفة، راقدان على الأرض..توقي للمس جسدها يحرق أحشائي، وهي قريبة مني، قريبة جداً، حتى أنني أشعر بأنفاسها تضرب شفتيَّ.."لن أتمكن من النوم هكذا"..افتح عينيَّ وأرى جسدها، وجهها المستدير، شفتيها المدورتين، شعرها الأسود الذي يلمع من أعلى بضوء أبيض لا أعرف مصدره...وأصوات أطفال يغنون غناءً جماعياً..."أحبك" لكن حنجرتي ترفض الإستجابة لأوامر عقلي وأظل ابتلع حجارة الصمت.."لا تحدثني مرة أخرى" .. أصيح"مجنونة" .. تختفي..أهرول في ساحة الظلام، وأرى تماثيل هائلة ترتفع إلى شاهق السماء..تماثيل سوداء، ذات محاجر مضيئة...وأفواه مفتوحة بلا أسنان.."عودي" أهمس..لكن الصمت هو ما يرد على هتافي.."دعيني ألمس ثدييك فقط"..يلفني الظلام من كل جانب، "نهدك ممشوق كثمرة المانجو..طري كنظرية لم تختمر"..أسير دون تعب ودون وجهة محددة، أرفع بصري للسماء، لا نجوم ولا قمر، فقط غيوم سوداء في العمق رمادية الحواف، تسبح في السماء ببطء، ثم تقهقه، تقهقه، حتى تبصق، ويصل بصاقها لجفني الأيسر...أشعر بغثيان مفاجئ فأتقيأ.. أتقيأ فينزلق القيء من بين جنبات فمي، أهمس بذعر "هل أنا راقد على ظهري؟"..أحاول الإلتفات لكنني لا استطيع، وأشعر بأن السواد من حولي يهبط لأسفل..."إنني أسقط..أسقط لأعلى"..
....

قالت العجوز: "ألن تشتري شيئاً من دكاني؟".. فرِحتٌ..دكان في منتصف الغرفة المظلمة بلا نهاية..إنسان..قلتُ "بضاعتك غالية" ..ظلت صامتة، نظرت في عينيَّ نظرة قاسية وصاحت "لماذا لا تشتري شيئاً من دكاني؟"..صحت "أتركيني في حالي"..قالت "لا أرى شفتيك.. إنني صماء..".. "ولكن ماذا أفعل..الظلام يلاحقني في كل مكان..".. تصيح بغضب "أيها المتعجرف".. أرد عليها "لست متعجرفاً" تصيح هي "لم يعلمك سنك الكبير احترام الآخرين" .. أرى وجهي أمامي في الظلام مليئاً بالتجاعيد..أهمس بفزع "متى كبرت هكذا؟" أرفع بصري إلى المرأة لكنها ليست هناك..ثم يغمرني الظلام فأسير بصعوبة بالغة وأنا أصرخ " أريد الخروج من هذه الغرفة الملعونة..أريد الخروج من هذه القرية الملعونة...أريد الخروج من هنا حالاً.. أخرجوني من هنا" أسمع صوت جدتي "لن يتوقف عن البكاء حتى يرى أمه"...
.....

هناك حشرات شيطانية تزحف تحت ظهري المسجى، تزحف وتقرصني، تزحف وتصل إلى مؤخرتي، تدغدغ فتحة الشرج، أحاول حكها لكنني أعجز عن تحريك يديّ، تستمر الحشرات الملعونة في نخر مؤخرتي، وأشعر بها تخرج من فتحة ذكري،...أتبول، فأسمع صرخات غرقها، أتغوط فتموت في الإسهال...ولكنها تقرصني مجدداً في ظهري، "حييت من جديد؟" .. ويستمر التعذيب، يستمر، وجسدي مشلول تماماً...أحاول فتح جفنيّ، لكنهما لا يستجيبان..أصرخ..أصرخ وأصرخ...فينفتحا...وأرى السماء بلا نجوم ولا قمر...الغمام الأسود يقترب مني بسرعة، أشعر بالخوف حين أدرك أنني أسقط لأعلى...ثم يغمرني الغمام..يتحبب جسدي بكريات الندى الباردة، أعرف أنني عاري الجسد..فاستسلم لشعور مفاجئ بالإرتياح...أرى القمر ضخماً وهو يشع بضوء أبيض، أخترقه وأخرج من جانبه المظلم، ثم تتساقط النجوم من حولي، كحبات المطر..."عليَّ أن أخرج من نفسي..عليَّ أن أخرج من نفسي....".. لن أبتلعها مرة أخرى..تُبت..تُبت ولن أكررها مرة أخرى...أقسم على ذلك...

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى