محمد عكاشة - الخض.. قصة قصيرة

(واحد اثنين، سرجي مرجي)
أحس أن ذراعين ثقيلين يكبلاني، ورأسي كأنها طوبة كبيرة قلقلها وابور حرث، ودوامة تلف بي كدوامة مترد اللبن عندما تخضه جدتي أو كأني مقيد في (ناف) الساقية وأدور حول المدار وحول عيني عصابة قماش كي لا أرى. النار تشتعل بجسدي، روحي ترفرف حولي، ورأسي تهتز فتهاجمني الأحداث وتتدافع الصور والكلمات فلا أعرف هل المقص الذي أصابني من أسفل قد علقني بين الحياة والموت، أم فرط عقد الذاكرة وتركني غارقا في غيبوبتي (واحد اثنين، سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي).
من المشنة المركونة بجوار الفرن الجواني سحب كل واحد منا أنا والعيال رغيفا مِلدناً كبيرا، وكعادتنا نقف في طابور طويل يبدأ من أمام جلسة جدتي وهي متربعة على حافة الفرن تخض اللبن وتصنع قوالب الزبدة بحركات دائرية بكف يدها داخل المترد، تتكون وتجمعها وترصها في صينية نحاسية كبيرة. كانت كلما رأتني أمشي وراءها تضمني بذراعيها وتقبلني وتقول: (خلاص يا بن سميرة بقيت راجل). تجلس مرتدية معطفها الأخضر القطيفة وحولها المتارد والقدور، يمد كل منا رغيفه فتخرج كف يدها المغموس لتدهنه، كل يأخذ دوره ويجري، وكعادتها كل يوم عندما تهم بخض اللبن تنادي زوجة عمي لتنقل المتارد القديمة، تفتح باب الصُفَّة الضيق المثبت على جدرانها أرفف خشبية من السقف حتى منتصفها، ترص عليها المتارد بعد الحلب، تحمل على رأسها وعلى كف يدها.
أعرف هذا الموعد عندما تستدير الشمس قليلا ناحية الغرب ويصفر ضؤوها الساقط على جدران المصطبة البرانية، أرى نورها قد ارتسم على شكل مثلث مكسور من الحائط إلى الأرض فأعرف أنه قد اقترب موعد (الخض) أو إذا رأيت جدتي قد خلعت شالها الأسمر وقامت رافعة (كُم) جلبابها ذاهبة إلى الدهليز (الوسطاني) أترك اللعب وأمشي وراءها وعندما تحس بي أتتبعها تلتفت وتضمني إلى صدرها وتقول: (خلاص يا بن سميرة بقيت راجل).
(واحد اثنين سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي، أنا حكيم الصحية). فإذا كنت ألعب فوق السطح أسرع أنا والعيال ونتزحلق دربزين السلم، نسّاقط واحدا تلو الآخر، وأصفهم في طابور، نسير إليها فنجدها جالسة فوق الفرن ونحن ندخل في سكينة وهدوء كي لا تغضب، نقف أسفلها في بحراية القاعة وكانت تشير لنا الكبير في المقدمة والصغير في الخلف وإذا خالفنا تعاليمها أو إذا أحدثنا جلبة ودفع كل منا الآخر تغضب من قلة أدبنا وتنظر لي موبخة، فدائما ما توكلني بتنظيم العيال وأنا بدوري أفرح بكلماتها والتي جعلتني أحس أنني بالفعل قد كبرت تنادي كل واحد منا باسم أمه، فهذا العفريت ابن نوال، وهذا الشيطان ابن نجية، وهذا الأهطل الذي لا ينقطع بربوره ابن سوسن. وكان إذا فعل أحد منا فعلته في الليل والتي يخجل منها ويعاير بها تعاقبه بألاَّ يقف في الطابور، بل يقف وحيدا وتقول له: (يا بوشخة).
نضحك في أعبيتنا فتشخط فينا وهي تبتسم وتشير لي (واد يا بن سميرة مش قلت لك بقيت راجل).
(واحد اثنين، سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي، أنا حكيم الصحية، بدي أزورك يا نبي) تأخذني من يدي دون الأولاد وتمر كل صباح على مزاود البهائم لتطمئن على ملئها بالتبن، فتعرف بأن هذه الجاموسة عطشانة، وهذه البقرة ضرتها منتفخة، وتقول هذه الجاموسة عشار في شهرين، وهذه في أربع. كنت أنصت لها وأنظر إلى وجهها المستدير ذي الأنف الصغير والفم الضيق والعينين السوداوين وهي تتفحص وتتحسس ظهور البهائم، وفي إحدى المرات وضعت يدها على ظهر عجل لبانة صغير وقالت (ده بتاعك)، قلت لها: (يعني إيه ياست)، قالت: (علشان بقيت راجل) ساعتها ظننت أنني من الممكن أن ألعب معه وأفك قيده وأسحبه دون أن يعترضني أحد، وعندما قلت لها ذلك ضحكت حتى دمعت عيناها وضمتني إلى صدرها وقبلتني، من بعدها كنت كل ليلة أدخل إليه وأتشعلق في أذنيه الصغيرتين وأتحسس رأسه وأركب على ظهره وأحدثه فينظر لي ويقفز يميناً ويساراً ليلاعبني، شددت جلبابها وسألتها: (هو ولد ولا بنت؟) ضحكت بصوت عال وقالت: (راجل زيك يا روح ستك).
(واحد اثنين، سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي، أزورك يا نبي، ياللي بلادك بعيدة، فيها أحمد وحميدة) أنا حكيم الصحية، بدي حملتني على كتفيها وأنزلت رجلي حول رقبتها، ودخلت إلى دهليز الطيور، تمر على جماعات الأوز والبط والفراخ لتشرف على ملء المساقي ونثر الحبوب وإذا رأت بيضاً مكوماً لا يجمعه أحد، تغضب وتنهر زوجات أعمامي، فرغم غضبها وثورتها في الصباح وتهديدها الدائم لهن لا تشكوهن في الليل بل تناديهن وكأن شيئاً لم يحدث وتربت عليهن لترضيهن. وتتحدث مع أعمامي عن شطارتهن ومهارتهن في صنع كل شئ. وكانت دائما ما تزعق لأمي وتوبخها فترتبك وأحيانا تبكي وعندما كنت أشاهد ذلك أحزن لحالها، وأتعجب من حدة جدتي عليها، تلحظ ذلك وسرعان - ما تحملني من أمام أمي وتبعدني وتجلسني في غرفتها المجاورة لقاعة العجين.
(واحد اثنين، سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي، أنا حكيم الصحية، بدي أزورك يا نبي، ياللي بلادك بعيدة، فيها أحمد وحميدة، حميدة ولدت ولد). ودارنا تحتل مساحة كبيرة في وسط البلدة لها بابان، باب يفتح على المجاز، وباب يفتح على الشارع الكبير بمدخل البلدة، مقسمة إلى أربعة دهاليز وأربع بوابات داخلية، وغرف كثيرة على الجانبين.
غرف النساء في الدهليز الداخلي وغرف الرجال في الدهليز الخارجي، ومقاعد على السطح من ناحية اليمين وصوامع الحبوب تحتل جهة اليسار وزلع (الحادق) تصطف بجوارها وبواجهة البيت، فدائما ما تبعثني لأصعد وأملأ لها الطبق، وكنت أتحين الفرصة وأفتح الزلع الفارغة وأزعق في داخل تجويفها لأسمع صدى صوتي، وعندما تأخذني الجلالة وأسعد بحلاوة صوتي أنسى طبق الحادق وأجلس محتضنا الزلعة بيدي وأغني كما تغني جدتي لي قبل النوم(واحد اثنين، سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي، أنا حكيم الصحية، بدي أزورك يا نبي، ياللي بلادك بعيدة، فيها أحمد وحميدة، حميدة ولدت ولد، سمته عبد الصمد).
(ياوله) نادتني جدتي فأسرعت إليها وهي جالسة على حافة المصطبة الكبيرة ورزق تمرجي الوحدة الصحية جالس على الحصيرة الشريط، وجدي بجواره يرحب به، وأعمامي قد جاءوا واحدا تلو الآخر. فرشوا الأكلمة والمساند وخلعوا التلافيح، وجلسوا يرحبون برزق، جاءت زوجة عمي سالم بعجل اللبانة والذي قالت جدتي أنه ملك لي، سحبته وربطته في العامود الخشبي الملاصق للباب الكبير، استقبلتني وأنا هابط درجات السلم فاتحة ذراعيها، ارتميت في حضنها، قالت: لا تلعب لقد قلت لك من قبل (خلاص بقيت راجل). جلست في حجرها استمع لحوارات جدي وثرثرة أعمامي وضحكات رزق التمرجي والذي كان بين الحين والآخر ينظر لي بطرف عينه ويتفحصني، وعندما أحست جدتي أن الهواء لفحني وسأنام وأذهب في سبات حملتني وربتت علي ظهري وأجلستني على الكرسي الخشب العالي بجوار جدي وقالت: اجلس هنا كي تعرف أنك صرت رجلا وأحسن من كل هذه العيال (ولاد الكلب دول)، وأشارت بيدها للجالسين فأجابوا بصوت واحد..آه. وفجأة وعلى غفلة مني قام عمي سالم واحتضنني بقوة من الخلف وهمّ رزق التمرجي واقفا بعد ما فتح حقيبته الجلد وأخرج منها المقص، شلح جلبابي وأمسك حمامتي فصرخت وغامت عيني من الوجع والألم الذي هز جسدي ورحت في إغماءة طويلة.
(واحد اثنين، سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي) ولم أتذكر سوى المقص وهو يجز حمامتي (أنا حكيم الصحية، بدي أزورك يا نبي، ياللي بلادك بعيدة) ولم أتذكر سوى السكين الحاد الذي ذبح بها جدي عجل اللبانة أمامي والذي قالوا أنه ملك لي.
(فيها أحمد وحميدة، حميدة ولدت ولد، سمته عبد الصمد) ولم أتذكر وأنا بين الصحيان والنوم سوى كفوف أعمامي مغموسة في دم العجل (بتاعي) وهم يطبعونها على الجدران والأبواب.
(مشته على المشاية، خطفت طيزه الحداية) ولم أتذكر وأنا في غيبوبة سوى وجه رزق التمرجي بأنفه الكبير المفلطح وعينيه الجاحظتين وشفتيه الغليظتين قد أغرقته المياه التي اندفعت من حمامتي.
(حد يا حد يا طيز القرد) ولم أتذكر وأنا أرتجف سوى عماتي وأعمامي وعيالهم يدورون ويغنون.
(إنت ولد ولا بنت) يصفقون ويطبلون وهم ملتفون حولي ينشدون (واحد اثنين، سرجي مرجي، إنت حكيم ولا تمرجي، أنا حكيم الصحية..................

محمد عكاشة
مصر


هامش
- الخض... هو عملية استخراج الزبدة بتحريك كف اليد كدوامة داخل إناء فخاري. مارسته المصريات الفلاحات في العصور الفرعونية القديمة
واحد اتنين سرجي مرجي
- لعبة شعبية قديمة يلعبها الأطفال بالريف المصري

* القصة الفائزة بجائزة نادي القصة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى