محمد عكاشة - فقه التصديق.. قصة قصيرة

عشقته، لم، لا أدرى.. رغم بلادته.. أحاوره دون إرادتى، أحس به يكبلنى، يأسرنى ببلاهته.. ألكمه كى يفر . يقف مترنحاً. يرفع يده ببساطه سادداً فوهة حنجرتى، أشحر، وأنفخ فى وجهه ليستحى .. يتطاول أكثر، حتى سدد لكمة قوية فى فمى، جعلتنى ألعنه، أتوعده، بأننى لن أترك له فرصة الأستحواذ على ثانية، ولكن هذا الملعون أحببته، رغم أنه دوماً يدفعنى للمهالك. تحدث الأحداث ويطلب منى اتخاذ القرار .. المجابهة أو الاستسلام، أو اشير لرغبتى فى ساعتها كى تتضح الرؤى، فأرى من يرافقنى أو من يتخلى عنى، تتأرجح الردود، فأكون الحكم، أو المتهم.
منذ زمن أرغب أن أتحرر منه كى أرى الألوان على حقيقتها.
(2)
ابتلع لسانى فينساب سائل دافئ حلو المذاق، جعلنى أمتصه بشغف. فلا داعى لفتح الفم وتحريك اللسان، لا جدوى أرى أمى تصعد درجات السلم وتهبط – أفعل مثلها.
تكنس السطح. تخرج المفروشات – أفعل مثلها.
ترتب المقاعد، تنظف زجاج النوافذ، تعلق الملابس داخل الدولاب – أفعل مثلها.
تغسل الأوانى، تشعل النار، تطهى الطعام، تفرغه فى الأطباق – أفعل مثلها.
زعق أبى، ارتجفت، بكت . أنظر لها.
تركتنى على السطح، بحثت عنها، تسللت على أطراف أصابعى. رمقتنى، دفعتنى بكف يدها، أرتطمت رأسى فى شباك السرير، أوجعتنى. نظرت لها بغيظ، ولكن تشبثت بذراع أبى كى أرقد بجواره – وأفعل مثلها.
تتشعب فروعه وتمتد حادة قوية، ينمو ويعلو، آه من اخضراره الذكورى النابض، يجعلك تهم فى غفله لتمسكه .. فيكون الصراخ بآه عالية، تحاول بعدها تنقية أشواكه من يديك.
(3)
كان باب الفصل يتسع لعشرة أجساد يندفعون وينحشرون كى يدخلون بسرعة ليلحقوا الدكك الأولى من كل صف. أندفع معهم لألحق مكانى، فى الدكة الأولى ناحية اليسار لصق الشباك كما أحب. أجلس دون كلام، يدفعوننى لأترك المقعد، أمسك الدكة بيدى يتكاثرون، يسحبون المقعد الطويل من تحتى لأقع على الأرض، فترتطم رأسى بأرجل الدكة الخلفية. أضع يدى على موضع الألم فتنهمر الدموع دون إرادتى. أنسحب للخلف جالساً فى آخر مقعد ناحية اليسار .. يجرون ورائى فى الفناء، يخطفون حقيبتى، أذهب .. تصفعنى أمى. فى الصباح أقف وسط الفصل، يلتفون حولى، يسبوننى. أنظر لهم فى رجاء، تزداد لعناتهم. أدور وسط دائرتهم، أندفع بقصر قامتى رافعاً رأسى لأعلى. طوحتها للخلف، سقطت بها على جبهة الولد الأول. ركع على ركبتيه. لكمت الثانى فى أنفه بسرعة فائقة. سال الدم على صدره. لكمات عديدة فى بطونهم جعلتهم يتراجعون. كراس خشبية طوحت بها فى زجاج النوافذ التى ناحية اليسار! فتناثرت شظاياه وجرحت ما طالته، وكانت الأجساد العشرة تصرخ وأنا أجرى وراءهم، قاضماً شفتى السفلى وأزوم ككلب يستعد للانقضاض.
بشعرها الناعم الدافئ، ووجها الأليف، وجسدها الرقيق. تقف ساكنة، تلمسها تتلمسك وتموء بأنغام دافئة، يعجبك سكونها، ولعبها بحركات بهلوانية تجعلك تربت عليها لتأكل وترقد فى فراشك.
وإذا تطاولت وحاولت أخذ صغارها .. أصبحت نمراً صغيراً.. تنتفض بأظفارها وأنيابها، تبخ فى وجهك كى تتراجع.
(4)
كم كنت أبغى اللعب مع الأولاد فى حارتنا، أناديهم بصوت عال وأضحك ولا يهمنى، كلما حاولت أن أجرى هنا وهناك مثلهم. أحس أننى سخيف الحركات فأخجل وأقف أو أمشى. أنزوى بعيداً مكتفياً بالمشاهدة دائماً، أقف بجوار بيت "عم السيد" رجل طيب، يربت كتفى كلما رآنى. يسكن فى أخر حارتنا. يذهب للجامع كل صلاة. متوسط القامة، أبيض الوجه ، وقور فى خطواته. أراه يجلس وسط الرجال ليحل مشاكل الجيران، من سب زوجته وضربها، من تعارك مع جاره، من اقترض مبلغاً ولم يرده لصاحبه، فيقعد ولاسته البيضاء الملفوفة حول رأسه، يتدلى منها طرف طويل، ينسدل على كتفه الأيمن، تعجبنى جلسته، أفرح لأننى الوحيد دون الأولاد الذى يحدثه. يقول : أنت ولد طيب وخجول. فى يوم قلت: لن أكمل اللعب، سوف أدخل بيت عم السيد لأسلم عليه، اشتقت للجلوس معه، هو دائماً يجلس فى حجرته التى يفتح بابها على دهليز الدار الكبير يعيش وحيداً. بعد وفاة زوجته، لابد أنه سيكون مسروراً بسؤالى. ناديته، لم يرد، دفعت باب الحجرة برفق، ربما أجده نائماً لأطمئن. دخلت، كان نور الغرفة خافتاً، ينبعث من (ناروزة) ضيقة فى السقف، وجدت جسده يعلو ويهبط، حسبته يتلوى من الألم، ربما يكون مريضاً أرى ظهره يتقوس، اسمع تأوهات، خرجت بعدها وجدت جارتنا أميمه تخرج من الغرفة مهرولة تعدل من هدومها فى اضطراب.
(5)
البنت البيضاء التى تجلس فى الصف الأيمن. أنظر لها، وتنظر لى. احببتها. عشقت عينيها الزرقاوين. عندما أقترب منها تبتسم، أرتجف .. أنظر أسفل قدمى.
النظر لها عن بعد كان حلاً مرضياً، وذلك بعد محاولات منى كى أتحرر من تلك العادة التى قيدت لسانى.
لم أكمل بقية اليوم، لم يلحظ الأولاد حبى لها .. حتى عندما غابت عن الحضور لم أحتمل الجلوس فى الفصل دون وجودها. ابتسامتها تؤكد لى أنها تحبنى، أود التحدث معها، أحكى لها وتحكى لى. أجلس وحيداً، أتذكرها، يأسرنى صدى صوتها وهى تتكلم وتضحك فى الفصل. أسير بجوار بيتها كل صباح، علنى أراها.
هذا الصباح وقف مدرس الفصل ومعه أبا البنت التى أحببتها. ماسكاً بالورقة التى ألقيتها داخل نافذة بيتها، قرأها بصوت عال، والأولاد يضحكون، ينظرون لى بتأن، يتفحصوننى، يصفعنى المدرس عدة صفعات يركلنى فى مؤخرتى.
الفراغ اللانهائى تلونه الشمس، تسبح فيه الكواكب، يزدان بالنجوم. فهل ندرك الحقائق، قبل أن تمر السحب وتنطلق العواصف، فيتولد البرق، وتساقط الصواعق أم تأخذنا الحيرة فنتمهل – قبل أن نرفع الرايات. قبل أن نهم بالخروج لنذهب. قبل أن تطير الطائرة.
إذا غفونا ولم نعلم، سيكون الفراغ اللانهائى للسماء – أعماقاً سحيقة تقذف حمم.
الكواكب السائرة كرات من نار
النجوم قنابل مضيئة تساقط ليلاً
الشمس فوهة، تضخ ألواناً حارقة تصهر كل ما تطوله.
السحب ليست مطراً للارتواء – بل للغرق.
(6)
"عز الدين" هذا الولد الجلف الذى يحرمنى من متعة اللعب دائماً، إذ كثيراً ما يقف فجأة وسط دائرتنا ويقول: (أنا فيها لا فسيها) سمج، رعل ، اغتاظ من بلادته، يمتلك جسداً كجسد خرتيت يرتع دون خوف .. أطولنا لا يتعدى خصره .. رغم (بربوره) المتدلى دائما، وبين الحين والحين – يرشفه فينسحب إلى أعماق أنفه، حتى تعبئ بكم كبير، بعدها يسيل على شفتيه عنوة، فيرفع "كم" جلبابه الأيسر ليمسحه، ولكن السائل اللزج المائل للخضار.. يطول الوجنتين، وبعد أكثر من عشرين مسحة "بكم" جلبابه تتلون وجنتيه بلون أخضر غامق مائل للون الريم فى مياه الترع. كان يعمل معنا فى مقاومة ديدان القطن، وفى ساعة الغداء .. يخلع ملابسه "بلبوص" فيترجرج جسده البض، ويتدلى كرشه وهو يجرى، يرمى بجسده فى ماء الترعة. كان يقف وراءنا كشافا ليلتقط "فقس الديدان" فيضربنا "خولى الأنفار" يقاسمنى ما أشترى من حلوى ودائماً يخطفها ويجرى، يدك الأرض بقدميه.
قلت سأسترح منه وأترك له حارتنا، وفى أحد الصباحات وجدته واقفاً فى طابور الأنفار. ينظر لى ويلعق بلسانه الهواء.. يحب الاستحمام فى الترع. يقول: إذا لم استحم فى الترعة كل يوم لا أستريح. يتحدث دائماً عن الترعة والعوم، وأنه يعشق مياه النيل. أحبها عندما كان يهرب من الدار ويمشى حتى شاطئ النيل مخترقاً حدائق الموز كى يتسابق ويسبح بعرض النيل، كل هذا ولا يقدر أن يعوم فى مياه ترعة صغيرة كهذه؟
قلت له: فى استطاعتك أن تتسلق هذه الشجرة وتلقى بجسدك من فوقها غاطساً: نظر لى باحتقار وقال (وإيه يعنى).
قلت له: إذا فعلت سأناديك "جمال عبد الناصر" بشرط أن تتسلق هذه الشجرة بالأخص، وجمعت الأنفار كى تشجعه، وقلت وهو يهم بتسلق تلك الشجرة السامقة "جمال عبد الناصر يعيش" وردد الأولاد ورائى "يعيش، يعيش، يعيش" رفع ذيل جلبابه، إلتقمه بأسنانه فبرزت مؤخرته. أحتض جذع الشجرة بذراعيه وصعد، وكلما أحس بالتعب تأخذه النشوة من تهليلنا، صعد حتى أعلى فرع فى الشجرة العالية، إعتدل ووجهه للترعة، ونحن واقفون على الشاطئ، فقلت بصوت خفيض هزيل "جمال عبد الناصر يعيش" فردد الأولاد ورائى بصوت جهورى رنان رج الملاء. أخذته العظمة والكبرياء، فخلع جلبابه ورمى به. رفع ذراعيه لأعلى وألقى بجسده كشهاب سقط من السماء. غطس ولم يقب .. إلا بصرخة عالية حادة، وتلون الماء بدمائه. حينها وجدنا بطنه مشقوقة، وشلال من الدماء ينهمر، وهو يبكى تارة ويصرخ تارة.
لم يدرك الولد الجلف أننى رأيت عمى سلمان يدق خابور "البدال" أسفل تلك الشجرة التى أصررت أن يتسلقها ليرمى بجسده من فوقها – ففعل.
لم يحس الولد الرعل بالخابور، حيث كان غاطساً فى عمق الماء، وحيث أنه لم يدرك صمتى نحوه كثيراً – فقد فعل.
ألقى بجسده، وارتطم به ليخترق جانب بطنه ويصرخ.
لم يدرك الولد الجلف أننى وراء تلك الفعلة الخطرة التى أرقدته على الجسر طريحاً ... إلا بعدما أخذه – الخابور ذو الثقوب الخمس السوداء، والذى يدق فى الترعة عند كل رى، أخذه غدراً، فشقه ولم يرحمه ... نظر لى وهو مستلق على ظهره يتلوى.
يئز ويدور فى دوائر متنقلة فى الهواء، يحط فوق الورود والأزهار، يمتص الرحيق، يعشش فى الخلية يفرز عسلاً. يطير ويهج. يدور دورات متوالية ليحط فوقك، يلدغك حتى تتورم .. لأنه رآك وأنت تتطاول وتمد يدك لتقتحم خلاياه.
(7)
ظهر القمر باستدارته لينشر ضياءه، كان بدراً، كنت أجلس عن بعد، أترقب الأولاد وهم يلعبون. الكهرباء لم تدخل قريتنا بعد. يتسابقون. يخلعون أحذيتهم، يكومونها كتل صغير، من يلحق حذائه قبل الآخر يلبسه ويجرى.. لاحقاً لمس الحائط .. يصبح فائزاً. أشاهد عن بعد وأضحك. يتسامرون، يرسمون خططاً ليلية كى يروا من الشجاع الذى يفعل مثل الرجال الأقوياء. أولاد الليل لا يخافون أحد. خططوا للعبة جديدة خطرة، جلسوا يوزعون الأدوار .. بقى الدور الأكبر والذى بدونه لن تتم اللعبة.
لم يجدوا من يقدر على تنفيذه .. تلعثم لسانى وأخذتنى الشجاعة فرفعت يدى كى أشاركهم اللعب. قلت بصوت منخفض: أنا. هاجوا، وصاحوا، وقالوا: أنت أيها الأبكم. قلت وأنا أبحلق فيهم بغيظ: نعم أنا. قضمت طرف جلبابى بفمى وفررت حافياً بجوار جامع بلدتنا القديم، دخلته على ضوء خافت لمصباح كيروسين قديم معلق بجوار المنبر. دخلته محتضنا ديك خالتى ليلى الرومى بين ذراعى. فرفعت غطاء النعش المرتكن بجوار جدار الجامع الخلفى من الداخل. رقدت فيه قبل وصول المصلين كى يصلوا صلاة العشاء. فعلت ذلك كى أثبت للأولاد أننى أقدر على ذلك. أننى من الممكن أن أخيف الرجال، وكنا نبغى بعدها أن نأخذ الديك فى الخلاء ونشد ريشه ليصيح.
أمام الجامع شيخ جليل، يقرأ الآيات بخشوع ويهلل بصوت عال وهو يؤم المصلين. كلما قال الله أكبر، يصيح الديك ويتململ بين ذراعى. الله أكبر ينطلق صياح الديك محركاً غطاء التابوت من فوقى. حاولت كتم أنفاسه ولم أقدر. هرع شيخ الجامع ومن وراءه المصلون إلى الخارج قبل نهاية الصلاة، جروا حفاه إلى ديارهم يقولون (عفاريت يا ولاد)، لم يصلوا الفجر فى تلك الليلة، حيث رقدت داخل التابوت ورحت فى نوم عميق حتى الصباح. وفى النهار عندما أشرقت الشمس تجمعوا يتقدمهم أمام الجامع. رفعوا غطاء التابوت من فوقى. فتململ الديك من بين ذراعى، وصاح ونفض ريشه وتدلت لوزتاه على صدره، وهب فى وجه شيخ الجامع صائحاً (قاق) زعق الإمام (يابن المركوب).
ذلك الذى يلامس الأفق. الواسع. وجه السماء. يتلألأ .. فيموج ليحمل البواخر. المراكب. القوارب. ينبسط ليعوم الناس، يمتد ليعانق الشط، يجزر، ليلم بساطه ويطويه ليسكن. تنظره السماء لترى ملامحها. تركبه السفن .. ليذهب من يريد الذهاب، يداعبونه، يرمون بشباكهم للاصطياد من خيراته. يسبحون للسباق واللعب. يجلسون على شاطئه ليشاهدوا خفته وهيبته. هذا المخلوق الذى ينعش الأجواء، فيسعد القلب، وينبسط البدن.
لا تستهين بسكونه وتأخذك الشجاعة، فتسبح كى تخترق أعماقه، أو تبحر فى ساعة غضبه، أو تصطاد وقت مصافحته للريح، أو تجلس على شاطئه وقت المد وعلو الموج.
كن حذراً من ثورته، والتى إذا اشتدت – يلطم كل ما تطوله أمواجه، ودواماته، وحيتانه. تحسبه هادئاً لا يقاوم ولكن تخيب الظنون، دون سابق إنذار، فلطالما ركبته وأرجحت قدميك ولم تع سكونه. ولطالما تصطاد من وحوشه ولم تدرك أصدقاءه، ولطالما أبصرت ولم تعرف مسافاته، ولطالما جلست ولم تدر أوقاته. فله أن يمارس حقه الشرعى فى الحياة ولتذهب أنت وغيرك إلى المجهول.
(8)
(تحرَّى) لم أعرف معنى هذه الكلمة .. رددوها كثيراً عندما كنا ننتقل من مكتب لمكتب، حتى وصلنا إلى مكتب الاخصائية الاجتماعية بالقسم. أشارت إلىَّ وقالت: (عندك كام سنة) لم أجب، وقفت صامتاً، تلعثم لسانى، حانقاً على ذلك المخبر الذى جرجرنا من شارع التحرير حتى قسم الأزبكية دون سبب، تركت بلدتنا هرباً من شمس القيلولة. جئت مع محمود وخالد، كنا نمشى منبهرين بالصخب، وبريق الأضواء، حتى رمقنا هذا المخبر الضخم.
دونت، ونظرت لى بتأن وقالت: (عشر سنين كوبس) (أنت ما بتنطقش ليه) كان عمرى ساعتها ستة عشرة عاماً، ملامحى تظهر صغيرة عن عمرى دائماً. لم أجبها، دفعنا جندى القسم بيده، قالت: رحلَّوهم. ركبنا القطار داخل عربة المساجين، وجوه برؤوس حليقة، وأعين جاحظة حمراء. ينظروننا دون كلام. وصل القطار إلى مركزنا فى منتصف الليل. أمر الضابط النوبتجى أن نبيت فى البندر حتى الصباح. لحين ترحيلنا للمركز والاتصال بأهالينا كى يتسلموننا .. أخذنا جنديان، زجا بنا داخل غرفة الحجز، غرفة ضيقة مستطيلة الشكل .. تسع أربعة أفراد بالكاد. إذا حاولت أن تنام لا تستطيع فرد قدميك بعرض الغرفة، كانت مظلمة إلا من ضوء خافت ينبعث من شق بين العقب وضلفة الباب .. وبعد أن تحسسنا الحوائط وآلفت أعيننا نور الغرفة وجدنا امرأتين جالستين.
لم يع محمود وخالد ما يحدث، فهما صغيرين. امراءة منهما اسمها سعاد، عمرها ثلاثون عاماً، خمرية اللون، رشيقة القوام، والأخرى أسمها رجاء، عمرها أربعون عاماً، تدخن السجائر، لم يقولا لماذا هن محبوستان.
لم ترفع سعاد عينيها عن وجهى فى ضوء الغرفة الخافت، خاصة عندما علمت أن عمرى ستة عشرة عاماً. حاولت النوم، مددت جسدى بطول الغرفة. خلعت سعاد جلبابها الاسمر، ونزعت شالها، ورقدت بجوارى شبه عارية. التهب جسدى، كنت لم أطلع على جسد امراءة شبه عارية من قبل، اختنقت أنفاسى ولم استطع الكلام، لم أقدر على المقاومة احتضنتنى بذراعيها وقبلتنى، ظلت تفعل ذلك بقية ساعات الليل، بينما يقف على باب غرفة الحبس جنديين مسلحين يحرسوننا حتى الصباح.
الأرض الصفراء الشاسعة
التلال ، الجبال ، الوديان، السهول.
الخلاء
السكون .. إلا من أصوات انهمار المطر، وصفير الريح.
هى الراحة لمن يطارده الصخب.
الأرض المنبسطة والتى تطؤها القوافل.
الجبال بأحجارها ومخابئها.
الوديان، بأبارها وأعشابها.
السهول بغزلانها وثمارها.
فهل تنوى الارتحال مع قافلة أو اصطياد غزلانها؟
فخذ متاعك ولا تأمن المحن، وارتحل عند السكون، قبل أن تبتلعك الرمال المتحركة، وتلفحك الريح، وتصفر، وتساقط الصخور من قمم الجبال.
(9)
أعوج فمى .. تتسع فتحته وتطول ناحية خدى الأيمن، يحدث هذا، كلما حاولت أن أتكلم، يمرق جانباً دون إرادتى، يؤلمنى، لم أعد قادراً على النطق أو الابتسام. المجازفة بعينها إذا حاولت الكلام، سيروننى مخلوقاً غريباً، وجهى كوجه قرد. الأفضل ألا أتحدث. أمشى وحدى دون أصحاب، لابد أنهم سيحدثوننى ولابد أن أجيب، سوف يكتشفون اعوجاج فمى، سأصبح لعبتهم. الأفضل ان أجلس وحدى.. حتى الكلمات ستخرج مهزوزة، مبتورة الأحرف، لن أعانى كثيراً من ذلك، أنا لا أحب الكلام. جلست أشاهد التلفاز، كان حفلاً عسكرياً، تمرق دبابات.. تجرى عربات .. تطير طائرات .. يروح جنود .. يجئ جنود .. تعزف الموسيقى .. يعلو الغناء. كلما حاولت أن أردد الغناء، أنحرفت فتحة فمى ناحية اليمين، فأصمت. أكتفيت بالمشاهدة، سمعت صوت طلقات نارية، وشاهدت أدخنة كثيفة، غامت لتحجب الرؤية، بعدها انقطع الإرسال، وعزفت موسيقى عسكرية دون صورة، لم أدر ما الذى جعلنى أمسك بعود من حطب الذرة الناشف وأثنى طرفه وأجرى به فى أرضية حارتنا .. أجرى وكأنى لم ألعب منذ زمن جيئة وذهاباً، وقف خالى أمام عتبة بيتنا، نادى على، وقفت أمامه قال بصوت عالى: لماذا تلعب، لم أستطع الرد، سيعوج فمى ناحية اليمين، ستخرج الأحرف مبتورة وفاضحة، خطف عود الخطب الذى ألعب به من يدى. كسره، صفعنى بكف يده على خدى الأيمن وزعق (تلعب والزعيم قد قتل) صفعة أخرى طالت فمى، جعلتنى أصرخ فيه. (يا بن الكلب) فخرجت قوية، سليمة الأحرف، ورن صداها فى بيوت الحارة.
حين يهتز وتدغدغه نسمات الهواء بدفقاتها.
فذلك صخبة.
تتمايل أغصانه لتتشابك وتتلاقى.
فذلك كلامه.
يرمى بظلاله، ويلقى بثماره
فتلك شريعته.
تعصف به الريح، وتحطم أفرعه.. تقتلعه ليقع مترنحاً فوق أسلاك عامود كهرباء عالى الطاقة، أو فوق بيت لينهار، أو فوق رؤوس السائرين.
فتلك ثورته.
والتى لاذنب له فيها.. فالريح العاصف التى ظلت تزجه كل حين وحين، لم يحتمل الصمود أمامها. فضحى بعد مراوغة بشريعته، فوقع على أرض خضراء – بقيت بوار أو سقط على رؤس الناس، فقتل من قتل، وجرى من جرى.
هوى على بيت كبير، فتصدعت جدرانه، أو انهارت واستوت بالأرض.
أرتمى على سلك كهرباء .. فتلامس، وتطاير الشرر، فأحرق كل ما حوله..
وتفحم الشجر.
الذى كان يود أن يبقى رافعاً أفرعه، فاردا أغصانه ليستظلوا.
كان يبغى أن ينمو أكثر .. فتساقط ثماره بعدما تطيب ليأكلوا.
كان يريد أن تمتد أغصانه لتعشش كل الطيور.
فلا تستهين بسكونه ولا برقة أغصانه، فتأخذك الغفلة وتلعب بك الظنون، فتهم بقطع أفرعه، أو تجتثه.. فدعه يقف وينمو ويثمر فى صمت.
(10)
لم يكن طعاماً – بل سداً – أخرسنى كل هذه الأيام، فوجدتنى أهيم نحو العزلة علنى أتوارى من السؤال، هذا الذى بقى يطاردنى حتى فى المنام. أتوارى من كلمات لو نطقتها، لهدتهم هداً، لنشبت معارك، وأقيمت أفراح .. ولكن تخنقنى الحقيقة، والتى لا مفر من قيودها.
أنا الساكت دوماً تتلصصنى العيون.
الساكن الهادئ تجرجرنى الأيدى.
الصامت، تسبنى الأفواه.
فلا أدرى أهي العادة أم العجز. أرانى أقف أمامهم فيقولون السؤال والجواب، يكفينى الامتعاض أو الابتسام أو النظر ببلاهة، وحينما أستدير .. تنفجر الأسئلة والتى غالباً تقتلها الحقائق.

محمد عكاشة
مصر


القصة الفائزة بجائزة نادي القصة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى