محمد عكاشة - صخر.. قصة قصيرة

قبل أن تخطو قدمه عتبة الدار المنخفضة عن أرضية شارع المجاز بدرجتي سلم من الطين – يطوح حقيبته القماش على المصطبة البرانية الملاصقة للباب. وكالعادة تنفرط كتب المعهد الديني وتصرخ أم صخر من حموريته وقلة أدبه. وقبل أن يصل أيضاًَ إلى عتبة الدار يخلع الجبة والكاكولا ويرمى بها ولا يعبأ في أي مكان سوف تقع. فمرة تقع على منقد الفحم، ومرة تلفح الجوزة المركونة بجوار الحائط ومرة تطير الكاكولا وتقع على رأس أمه والتى لا تلبث أن ترد عليه بحدف فردة شبشب في وجهه. ويضحك ويقفز ككبش كان مربوطاً وفك قيده ليلحق بالنعاج. (شيطان ولابس شيخ) تقول أم صخر ذلك وهي تضع الطبق ليأكل قبل أن يلتهمها هي. يأكل منكفئاً ولا يرفع رأسه إلا بعد أن يجهز عليه. يتمطع ويتكرع ويضرط ويهب واقفاً ضارباً بكفه على صدره، ويسحب الزقلة الخشب القصيرة لينقر من لا يعجبه من العيال فوق رأسه. أطلقت عليه أمه بعدما وضعت أصابعها العشرة في الشق (جر شكل) وعندما تجلس النساء على عتبات البيوت في هدوء دون ضجيج يدركن أن صخراً إما نائماً أو لم يأت بعد بزعابيبه كأيام أمشير. ولولا سلاطة لسانه الأشبه بفرقلة وإفشائه أسراراً عنهن قد رآها خلسة كن مزقن هدومه ليجرى بلبوصاً في الشارع، وأيضاً تلاشياً لسباب أمه والتي تشكو منه مساءً وتبكى عليه وعلى حظه العثر في الدنيا صباحاً. فتصليح الأحذية مع أبيه لا يكفى لسد احتياجات الدار. ورغم ذلك تمصمص أم صخر شفتيها وتقول لنساء المجاز: حمورية صخر ولا الحوجة لأحد. فكل ليلة تنصب القعدات على المصطبة البرانية ويجلس أبوه عبد الفتاح نصير يسعل ويبصق وينفث دخان الجوزة ويسب مائة دين على اليوم (اللي خلف فيه صخر) وتنتهى الجلسة بقلب الجوزة على الأرض وبحدف أم صخر بوابور الجاز لأنها لم تقدر على ترويضه، وبدلاً من أن الحاضرين قد جاءوا ليشكوا من صخر وليأخذوا حقهم – تنقلب الجلسة لقعدة صلح بين أم صخر و(أبو صخر) ويخرجون ضاربين كفاً بكف.
* عندما قال صخر:
رغم أني لم أصادقه وإذا رأيته يلعب لا أشاركه إلا أنه كلما رآني مرتكناً بجوار الحائط ناظراً إليه بتوجس وخوف يداعبني ويرجع للخلف ويقول: أنظر. فيندفع بسرعة ويتشقلب جاعلاً رجليه تلامس الحائط ورأسه تلامس الأرض يسقط ويعاود اللعب ويمشى على كف يديه ورجليه في الهواء، وحينما يجدني لم أشاركه اللعب ولم أصفق له يشدني عنوة ويحدف لي عصا صغيرة لأبارزه وتنتهى اللعبة بتطويح عصاي في الهواء بضربة قوية من عصاة، فيضحك بصوت جهوري مهزوز كصوت وابور حرث يقلقل في أرض (شراقي) ويكبلني بذراعيه ويرفعنى لأعلى ويقول وهو يبحلق بعينيه: ها.. غلبتك. وتبقى لعبته هذه حكاية يشيعها بين العيال. وكي يصادقني همس في أذنى لأبلغه عمن يلقبه من ورائه بجر شكل ولكي أتودد له وأتقى غشمه – أبلغته. من بعدها أصبحت صاحبه. أجلس أمامه وأشاهده وهو يدق المسمار الحديد ويرص القوالب الخشب، ويقص ويخرم. يعشق الوش في القالب بعد تفصيله وحياكته ويتركه ليجف قبل أن يشد عليه النعل يضع المسامير في فمه ويدقها بخفة وسرعة كأسطى كبير. انتظره بعدما يأتي من المعهد ليحكى لي عن معاركه مع الأولاد وعن كراسي أتوبيس الشركة والتي يشقها بالموسى ليخرج منها الأسفنج ليلف عليه الخيط ويبقى كرة يلعب بها.
أصبحت أمشى في المجاز نافخاً ريشى ولا يهمنى أحداٌ لأنني صاحب صخر ولأنه بقوته قد تصدى لألسنة النار حين أضرمت في دار السيد (أبو نمير). قفز كقرد فوق السطح وسقط بالداخل ليفتح الباب ويخرج البهائم وسط تهليلات الناس. رغم أنه لا يكبرني بفارق كبير إلا أن جسده كان طويلاً وفارعاً أو كما تقول أمه (يعرش على زريبة) ورأسه كبيرة في استطالة أفقية ملفتة. وشعر أسمر كثيف ينسدل على جبهته الأشبه بزلطة جبلية تلمع في ضوء الشمس، وعندما تراه كل صباح مرتدياً زي المعهد الديني ورائحة الصابون والبوطاس تهب منه لا تصدق أن هذا جر الشكل صخر والذي يضج شارع المجاز كل يوم بصخبه ومعاركه. وأن هذا الوجه الملطخ في الليل بطين البرك وتراب المجاز هو نفسه هذا الوجه الذي يخرج في الصباح رائقاً براقاً وبصيص من نور يطل من عينيه الواسعتين. وابتسامته العريضة التي تبرز صف أسنانه البيضاء كحبات كوز ذرة أخضر ينتظر الشواء.
* عندما ذهب صخر:
حين تنحرف الشمس ناحية الغرب ويسقط ظل صوامع القمح على أرضية شارع المجاز – يعلم الجميع أن موعد صخر قد حان وما هي إلا دقائق ويسمع الكل صخبه. إما بحدفه طوبة في باب أو تعلقه في حديد شباك ليطل على من بالداخل، ورغم مصاحبة النساء لأم صخر – إلا أنهن يكظمن غيظهن لأنهن يعلمن أن عيشتهم (ضنك) ولا يحتملون الخصام، ورغم ذلك هي التي تلوى (بوزها) عند كل شكوى.
ولا ترجع تجلس معهن إلا بعد أن تدب معركة بينها وبين أبو صخر وتكون هي الحجة التي تلم شملهن، وغالباً ما تنتهى المعركة بكلمات ساخرة وضحكات على وساخة أدمغتهن ويقولن ذلك لأبو صخر لتهدئة ثورته – أن الرجال لهم الحق بأن يقولوا (نسوان أدمغتهن فارغة) إنما في هذا اليوم خرج صخر كعادته مهندماً حاملاً شنطته القماش (الدمور) متجهاً إلى المعهد الديني حادفاً سلاماته وتحياته كرجل لكل من يقابله.
خرج ولم يعد. وجلست أمه واضعة يدها على (خدها) في انتظار عودته ولأنها قد اعتادت على صخبه أحست بالصمت يحتل الدار، وخرجت تبحث عنه. قابلها أحمد النكاوي راكباً حمارته ومدلياً رجليه وقال لها: أنه رآه يسبح في ترعة الغول. وقابلتها مريم أبو عريش وهي حاملة على رأسها مقطف البصل وقالت أنها شاهدته متسلقاً شجرة الجميز الكبيرة عند مدخل القرية يختن ثمارها. وقال عيال المجاز أنهم رأوه متشعلقاً في جرار وابور حرث على هدهد.
والتفت النساء حولها لتكف عن البكاء. وحين حل الليل جلست تنظر لمكان قعدته وحوله عدة تصليح الأحذية وعصاه الزقلة القصيرة وملابسه المعلقة على حبل في ركن الدهليز وصوته الذي مازال صداه يملأ المكان. جلست في انتظار ربما يأتي أبو صخر الذي لم يغمض له جفن منذ غيابه. وبدلاً من سخط شارع المجاز الدائم على صخر تحول بقدرة قادر إلى رضا وأشواق وخوف على مصيره والذي أصبح في علم الغيب. فمنهم من يقول كان رجلاً وبطلاً رغم صغر سنه. وقال عواد النادي كان نبيهاً رغم شقاوته. وعبد العليم بساريا رفع يده للسماء وقال (كان بتاع ربنا) وخرج شارع المجاز عن بكرة أبيه للبحث عنه ووقفوا جميعاً على شاطئ ترعة الحمامات وعند التقاء ترعة الغول بمساقي الأحواض – بعدما علموا أنه كان يسبح هناك. وقفوا حتى غربت الشمس ولم يجدوا سوى الجبة والكاكولا ملقاة على فرع شجرة التوت وحقيبته خاوية وملقاة على كوم ردم أسفل شجرة كافور مائلة وحذاؤه مرمً على شاطئ الترعة الآخر وكتب المعهد الديني تعوم في الماء.


محمد عكاشة
مصر







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى