قاسم حداد - تسعون أدونيس

1
ليس أن تحبه أو لا. هذا شأنك الخاص، وهذا لا علاقة له بالأدب، ولا بالفن الشعري خصوصاً. أدونيس، أن تقرأه.
عندي، كل من يكتب الشعر لا بد له أن يقرأ شعر أدونيس، فليس ثمة اكتمال فنيّ لأي شاعر عربي كان، إذا هو لم يقرأ أدونيس.

2
الدرس الذي يقدمه شعر أدونيس لأي شاعر، مبتدئ موهوب أو شاعر متقدم، هو درس ضارب في العمق من تجربة الشعر واللغة. حين يكتب أدونيس قصيدته، لا يقف في إقليم الأبجدية التي نعرفها، فنياً. بوصفه مبدعاً، يبتكر أدونيس للأبجدية العربية رديــفاً جديداً، يجعل من الأبجدية وقوفاً شاهقاً أمام المرآة، لنجد الأصداء الفاتنة التي تمنحنا أجمل مكتشفات الكتابة في الشعر العربي.

3
حتى إنه عندما كتب قصيدته «أبجدية ثانية» لم يكن يعبث بنا، أو باللغة العربية. تعالوا انظروا ذلك النص الفاتن الذي أعطى اسمه عنوانًا لأحد كتبه الأخيرة. لقد كان أدونيس يدرك ما يفعل، فمن حق الشاعر أن يصوغ للقواميس طرقاً جديدة، أجل الاحتفاء بأجمل مكتشفات الكتابة الشعرية، وهو يغرر باجتهادات اللغويين. الشاعر لا يأخذ من القاموس، إنما يعطيه.

4
عندما تلقيت دعوة المشاركة في احتفال أدونيس ببلوغه التسعين، قفزت في ذهني صورة الفتى النشيط الذي جاء إلى فندق نابليون في بيروت ليرحب بالشعراء، المدعوين للمشاركة، في ملتقى الشعر العربي الأول، الذي نظمه النادي الثقافي العربي في بيروت في شتاء 1970. كانت صالة الفندق معتمة لدرجة احتجتُ بعض الوقت لكي أتبين ملامح رجل قصير القامة يتحرك مثل نحلة بين كثيرين في تلك الصالة. كان شعره أسود لايزال. همس لي قبل أن يغادر (لا ترتبط على سهرة الليلة، سنكون في البيت). من يومها تأكد لي معنى العائلة في حياة الشاعر.

5
في أبوظبي، علمتُ أن فكرة الاحتفاء بتسعينية أدونيس جاءت من الشيخ نهيان بن مبارك النهيان، وأتيح لأدونيس اقتراح الشعراء المشاركين ودعوتهم، لذلك بدا أدونيس حزيناً، لكون اللقاء يفتقد التنظيم، متحرجاً من أصدقائه. قلنا له نحن جئنا من أجله، لكي نشاركه مناسبة حميمة لا تتكرر. ونعرف أن تجربة أبوظبي وخبرتها في تنظيم اللقاءات أفضل من هذا. فليس له أن يهتم.

6
من بين الندوات والأمسيات الشعرية، ثمة ندوة تحدث فيها الشعراء عن موضوع غاية في الأهمية، «ماذا لدى الشعر يقوله للعالم الآن؟». تحدث فيها الشعراء، بمشاركة أدونيس، عما يجول في خواطرهم، صدوراً عن تجاربهم. كان معظمهم يسائل كيف يمكن للكون أن يحاور كائناً يصدر عن مخيلةٍ نشيطةٍ، ويذهب إلى مستقبلٍ غير متاح.

7
هنا شيء مما قلته في الندوة:
بدايةً،
يتوجب فضح الأكذوبة الموروثة، التي تشير إلى فرح العرب واحتفالهم بولادة الشاعر فيهم. الواقع يقول عكس هذا، خصوصاً حين يكون الشاعر خارجاً على قبيلته. عدد القتلى من الشعراء في كل عصور العرب لا يحصون، وأعرف عناية الشاعر أدونيس بدراسة هذا الموضوع ورصده، وهو الذي سجل ذلك منذ سبعينيات القرن الماضي، ثم انتظرَ لكي يصوغه لنا في «الكتاب». في كتابه، بأجزائه الثلاثة، ستجدون عدداً لا بأس به من الشعراء المقتولين. لكي لا نأخذ أدونيس نموذجاً معاصراً، وثمة من كتب عن الشعراء المقتولين في قديم الكتب العربية. فربما كان احتفال العرب بموت الشاعر أكثر وضوحاً. تيمناً بتقديس الموتى.

ثانياً:
الشعر الآن هو النص غير الممتثل لأي سلطة، بل إنه ضد جميع السلطات، وظني أن هذا هو الدور الذي يتشبث به الشعراء عبر تاريخهم في جميع الثقافات. فدوره الحضاري يتمثل في تأكيد المسافة النقدية مع جميع السلطات، والتشبث بهذه المسافة.

ثالثاً:
الشعر هو أيضاً، غير معني بترميم ما يفسده السياسيون. السياسيون الذين لا يتوقفون عن تخريب العالم.

رابعاً:
تقنياً، لم يعد الشعر محصوراً في القصيدة، الشعر في كل شيء. لقد صار الشعر في حياتنا جميعها.

خامساً:
ما يمكن أن يحققه الشعر في الحياة، يتمثل في تأكيد أنه ليس مضطراً للإعجاب بهذا الواقع، الأنظمة السياسية على التعيين. الموقف النقدي من أشياء الحياة، هو قدرُ الشعر في العالم.

سادساً:
منذ وعينا على تاريخ البشرية، وعلى تاريخ الكتابة الأدبية، ندرك أن الآداب والفنون ليس لها فعلُ التغيير المادي المباشر في حياتنا. أريد اقتراح الكفّ عن وهْم يؤكد دور الأدب في تغيير الواقع. التحرر من هذا الوهم يمنح المواهب البشرية طاقة لا نهائية من جماليات الذات المبدعة.

٭ شاعر بحريني
أعلى