أمل الكردفاني- المدينة النائمة- قصة

كان دخان المطاعم ينبعث رماديا ويطير إلى السماء السوداء، ثم يغرق بالضباب المحيط بقمم ناطحات السحاب، بعض الأوراق تعبث بها الريح فتطير في قفزات واسعة لتعبر الأسفلت، قطة تموء من فوق صندوق قمامة حديدي وعيونها تلمع. ورائحة أشياء عديدة تتخالط، ولكنها كلها تعبر عن مدينة رأسمالية عتيقة. هذه بداية ديسمبر والبرودة تغزو جلده رغم معطفه السميك وكوفيته الملفوفة حول عنقه، وطاقية اللباد الرمادية تغطي نصف رأسه العلوي حتى نصف وجهه..عيناه بالكاد تريان قدامه. إنه اليوم يقف تحت عمود مصباح، ويتأمل المدينة النائمة..، ولا يرى شيئاً. بل ولا يتذكر شعوره في أوَّل يوم له هنا. أتى ليكون حراً، فلم يتحول لعبد فقط، بل لعبد جزع خائف ترتعد فرائصه. هنا حيث لا رحمة، ولا قيمة لمن لا يملك تأميناً صحياً. ولا صوت لأمثاله.
رمى عقب سجارته وسحقه بحذائه الرياضي القديم.ثم غاص بكفيه داخل جيوبه وسار في ليلة حالكة مُقبَرة.
يمكنه أن يتعرض للإعتقال من الشرطة للاشتباه، أو القتل من عصابة.
وعلى طاولة القمار تعرضت للصفع حين خسر الكهل مبلغاً ليس بالقليل. فغادرت وقد أذابت الدموع كُحل عينيها والآيلاينر الأسودين ثم مزجتهما بالآي شادو ليتمدد تشويهها بجرف باقي مستحضرات التجميل كالكونتور والبلاشر والكونسيلر والبرايمر..بل زاد الامر سوءً عندما سقط رمشها الصناعي من جفنها العلوي الأيمن.
لم ترَ أمامها وهي تعبر الصالة بحذاء من نعل عالي العقب، قَوَّى عضلات ساقها فبرزت البرتقالة على جانبي ساقيها. لقد أهينت أكثر مما يتحمله آدمي ولد في عالم من المفترض أن يكون عالماً حراً. لقد ساقها القدر لتكون حاظية، ولا يمكن ترجمة هذه الكلمة، لأنها منحوتة من الحظ، فهي تعني (مانح الحظ). كانت مانحة حظ في صالات ألعاب القمار، لكنها في الواقع تحولت لمانحة نحس لمن تقف قربه. كان يخسر، وسيخسر لا محالة. أضحوا يرسلونها للاعبين الجدد الذين يكسبون بفضل حظ المبتدئين، فتقف قربهم لتبدأ رحالة الارتداد إلى الخلف. أضحت محل سخرية كجالبة للنحس. واليوم تعرضت للضرب من ذلك الملياردير، وطُردت من العمل نهائياً، فسمعتها السالبة كجالب للنحس لحقت بها ولن تتمكن من العمل في أي صالة قمار بعد اليوم.
حين خرجت من صالة القمار عبر قربها أحدهم، شبح رجل طويل القامة، نحيف وملامح وجهه مغطاة بطاقية اللباد. وسمعت بعد ذلك صوت رصاصات بندقية آلية. ثم ساد الصمت..فعادت إلى الصالة ورأته يجمع المال في حقيبة جلدية من تحت الجثث. وحين رآها تحدق فيه، بادلها التحديق. ظل صامتاً، فرفعت كفيها وأخذت تصفق ببطء. فحمل حقيبته وغادر وهو يعبرها بسرعة. بعدها اتصلت بالبوليس، الذي رآها على شاشة الفيديو المسجل وهي تصفق للمجرم. غير انه لا توجد مادة في القانون تعاقبها على التصفيق إعجاباً بمجرم، فأطلق سراحها.
كل كاميرات مراقبة الشوارع سجلت حركته حتى وصوله للغابة الكبيرة واختفائه تحت ظلامها.. لكن الغابة رغم اتساعها كانت تجبر كل من يدخل فيها على الخروج بأسرع ما يمكن، وخارجها كان محاطاً برقابة الأقمار الصناعية، وهكذا لم يبذل البوليس مجهوداً لملاحقته داخل الغابة بل انتظروه خارجها.
المتهم شاب في أواخر العشرين من العمر، أسود، وهو مهاجر لم يكمل سنته الثالثة هنا.
كانت تتمنى له النجاة وكان يتمنى لها الحظ ولكن لا شيء من أمانيهما قد تحقق. فقد قُتل هو برصاصات البوليس، أما هي فقد تأكد لها أن عودتها للصالة هي التي أصابت ذلك المجرم بالنحس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى