لينا كيلاني - تسألني سجرة الياسمين..

شوارع دمشق، وبيوتها، وحدائقها تكاد لا تخلو من شجرة ياسمين تعرش فوق الجدران، ويملأ عطرها الأجواء حتى لتظن نفسك أنك تتجول في قارورة عطر لا في شوارع وأزقة لمدينة قديمة قدم التاريخ، وعاصمة عريقة تنبض بالأصالة، والكبرياء.. بينما الأدباء، والشعراء يخلصون في أعمالهم الأدبية لهذه الشجرة النقية التي تنبت في تربة دمشق فيتغنون بسحرها، وروعة بهائها.. أما الأديبة (قمر كيلاني) التي لم يغب بوح الياسمين عن كتاباتها فقد كتبت ذات يوم في زاويتها الأسبوعية في جريدة (الثورة) مقالاً بعنوان (أنا وشجرة الياسمين) تعلن فيه عن ارتباطها بتلك الشجرة التي تزدهر في فناء بيت جدها في حي (النوفرة) من أحياء دمشق القديمة، وهي تبادلها الوفاء بالوفاء عندما ترمي لها بأزهارها البيضاء فوق صحن الدار في ليالي الصيف الدافئة، وقبل أن تنضم أغصانها على بعضها بعضاً استعداداً لمواجهة فصل الثلج، والصقيع عندما تبدأ ملامحه بالظهور أملاً بفرح جديد قادم مع صيف جديد.

وفي ذكرى رحيل (قمر) التي تتكرر كل عام مع بداية فصل الشتاء، وتتكدس فيها أرقام فوق أرقام، تسألني على الدوام شجرة الياسمين التي غرستها أمي في حديقة بيتنا قبل أن تنضم أغصانها على براعمها المخبأة لموسم قادم، أقول تسألني عن أمي، عن ياسمينة دمشقية فقدتها من بين أزهارها.. وكيف لي أن أحصي عدد نجومها البيضاء.. وكم سقط منها، أو بقي معلقاً فوق أغصانها؟.. تسألني عن جيل بأكمله من النساء البارزات، المتعلمات، والمثقفات، وممن لهن دورهن الرائد في المجتمع السوري، وقد كن قدوة للأجيال، وهن يشبهن الياسمينات الدمشقية التي تنضم في عقد يزين الأعناق.. لكن عقد الياسمين ولو انفرط وسقطت منه بعض النجمات فإن عطره يظل فواحاً يملأ الأجواء.

إلا أن شجرة الياسمين هذه تعود لتسألني عن إحداهن بالتحديد، غابت عن ذلك الغصن الثري، فهي تعرفها منذ كانت تسكن معها في ذلك البيت العريق في دمشق القديمة، وخيوط الارتباط بينهما نُسجت منذ ذلك الحين حتى أصبحت كل منهما تنتعش بعبير الأخرى.. فأقول لها إن تلك الياسمينة الدمشقية لم يغب حضورها رغم الغياب ما دام نبضها الأدبي، وإرثها الفكري بين أيدينا نطلع عليه، ونقرؤه، فصاحب الأثر يظل متواجداً من خلال الأثر الذي صنعه، وتركه لمن يأتون بعده، وكذلك هي (قمر).

وتتمايل شجرة الياسمين وقد غدت عارية مع دخول الشتاء، وهي تنفض عنها آخر أوراقها اليابسة، وما تبقى من زهراتها، بينما تتقصف أغصانها النحيلة تحت حبات المطر، وكأنها تشك بقدرتها على البقاء لموسم إزهار جديد يختبيء خلف الشمس، فهي تعرف أن لا ربيع بلا شتاء.. وأمد أصابعي الراجفة لأجس أغصانها، وما ألبث أن أقصف غصناً طرياً، وأغرسه في التربة الرطبة بجانب أمه الشجرة الكبيرة لعله يصبح شجرة أيضاً.

وأحلم بنجوم بيضاء تزهر في ربيع قادم مع أسطورة الياسمين الدمشقي التي لا تموت ألملمها لأنثرها فوق دروب الذكرى.. ذكرى ياسمينة دمشقية سقطت من شجرة الحياة دون أن تسقط من شجرة الذاكرة، أو من صفحات الأدب التي تظل خالدة، ولا يزيدها الزمن إلا بريقاً، وتألقاً ذلك لأن الأديب يستشرف المستقبل فيما يكتبه، وكثيراً ما عدنا إلى نصوص للمبدعين كتبت قبل عقود لنقول: هذا النص كأنه كتب الآن، أو أن كاتبه كان يرى ماذا سيجري فبادر إلى معالجته في أدبه.

والياسمينة ولو سقطت عن شجرتها إلا أن عطرها لا يسقط عنها، بل يظل تعبق به الأجواء معلناً عن وجودها.. وهذا هو حال الأديب، والفنان لو غاب فإنه يظل بيننا ما دامت آثاره الأدبية بين أيدينا يحدثنا من خلالها، ونتحدث إليه عندما نقرؤها.. وكذلك هي ياسمينة دمشق وقمرها التي مازال عطر كلماتها، وبوحها ينبض بيننا.

لينـــــا كيـــــــلاني ـ
أعلى