رجاء بن سلامة - المهمّشون والهامشيّون

ليس من السّهل طرح موضوع “التّهميش”، لضبابيّة المفهوم رغم أهمّيّته، ولإمكان توسيعه لما لا نهاية له من الأفراد والفئات الاجتماعيّة. ضبابيّة المفهوم متساوقة مع أهمّيّته، في عالم تعرّض فيه الرّابط الاجتماعيّ إلى تحدّيات مختلفة باختلاف المجتمعات. ويزداد عسر التّعريف بوجود معطى نفسيّ هو نوع من “الشعور بالهامشيّة” نجده في شكوى أغلب الأفراد، وفي “رواياتهم” الفرديّة، مهما كان وضعهم الأسريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. صورة المجتمع المرصوص كالبنيان المتماسك هي أبعد ما تكون عن معيش الإنسان، هذا الحيوان المدنيّ بالطّبع، مع ذلك. فلعلّ في همّ الانتماء وعدم الانتماء مظهرا من مظاهر “قلق الحضارة”.

لفظتان يمكن أن نختارهما للتّمييز الأوّليّ بين هامشيّة إراديّة، ذات طابع اجتماعيّ-ثقافيّ، هي هامشية من يختارون نظام قيم ونمط حياة غير مقبولين في مجتمعاتهم، فلا يشعرون إلاّ بانتماء جزئيّ لهذه المجتمعات، وهامشيّة اضطراريّة لمن وجدوا أنفسهم على أطراف مجتمعاتهم نتيجة إقصاء اجتماعيّ-اقتصاديّ، أو حتّى دينيّ-سياسيّ.

وقد وجدت في اللّغة العربيّة متّسعا للتّمييز بين هاتين الهامشيّتين : يمكن أن نختار لفظة “الهامشيّين” لهؤلاء الذين يختارون الهامش موقعا، ويحاولون إنتاج ثقافة موازية ومختلفة عن الثّقافة السّائدة، ويمكن أن نختار لفظة “المهمّشين”، بصيغة المفعول، لمن لا يختارون أيّ موقع، بل يجدون أنفسهم ربّما خارج كلّ المواقع، في أطراف المدن أو في القيتوهات، أو على قارعة الطّرق، بلا سكن ولا مصدر رزق، أو بلا جنسيّة محدّدة، أو بلا حقوق يكفلها القانون وتؤكّدها السّلطات العامّة، وقد يجدون أنفسهم أحيانا في قوارب نجاة، هي قوارب موت في الوقت نفسه، تسوقهم إلى جنّة موعودة أو موت مبهم.

المشترك بين الهامشيّين والمهمّشين هو صفة “الوصمة” : صفة علوق صفة سلبيّة بكياناتهم، بقطع النّظر عن أفعالهم وأشواقهم. صفة تكاد تسلبهم الحقوق الإنسانيّة الطّبيعيّة. ويزداد الإشعاع السّلبيّ لهذه الوصمة كلّما ضاقت المجتمعات بفرادة الأفراد، وكلّما كانت التّصوّرات التّقليديّة والأنماط العلائقيّة القبليّة مهيمنة، بحيث يتحوّل الهامشيّون أنفسهم إلى مهمّشين، موضوع إقصاء ونفور وتمييز.

وما لاحظته من خلال شيء من الاطّلاع على الأدبيّات السّوسيولوجيّة في الموضوع، هو اطّلاع غير المختصّ، أنّ مفهوم التّهميش في مجتمعاتنا أكثر اتّساعا منه في المجتمعات التي تعدّ ديمقراطيّة، أو على الأقلّ في المجتمعات التي يمكن أن نتحدّث فيها عن “دولة القانون” . إنّه لا يقتصر على المشرّدين المدمنين على الكحول والمخدّرات، أو على من ليس لهم سكن، كالـ SDF (بلا سكن قارّ) بفرنسا، أو من عارضوا نظام التّعليم والتّشغيل كـ Street people (ناس الشّوارع) بأمريكا، بل يشمل فئات عريضة ومتنوّعة.

ففي ظلّ الحرمان السّياسيّ من الفعل المدنيّ والمشاركة في صنع القرار، بدرجاته المتفاوتة في مجتمعاتنا المختلفة، تتّسع فئات المهمّشين إلى النّخب المثقّفة نفسها، وفي ظلّ الحرمان القانونيّ من المساواة، تتّسع هذه الفئات إلى أبسط التّصنيفات الاجتماعيّة، كالنّساء، والأطفال الذين لا يشرّدهم الفقر فحسب، بل تشرّدهم عادات الزّواج العرفيّ، أو غير القانونيّ عامّة، وتشرّدهم قوانين لا تحمي الأمومة والطّفولة. وفي ظلّ مجتمعات لم يتّضح فيها بناء الرّابط الاجتماعيّ على أساس سياسيّ علمانيّ، هي مجتمعات “دين الدّولة” أو”لغة الدّولة”، قد تتّسع فئات “منقوصي المواطنة” لتشمل الفئات الأتنيّة والدّينيّة. وفي مجتمعات الحزب الواحد المهيمن، قد يعدّ غير المنتمي إلى الحزب الحاكم هامشيّا، منقوص المواطنة أيضا، غير قادر على فرض الاعتراف بكفاءته، بل مشطوبا، بقرارات رسميّة أحيانا، من وسائل الإعلام التي يموّلها دافعو الضّرائب. وفي مجتمعات تهيمن عليها أشكال بدائيّة من التّديّن، تصل إلى حدّ العمل بحكم الرّدّة، قد يعدّ اللاّدينيّون وغير المؤمنين بأي عقيدة دينيّة مهمّشين، وأقليّة لا تجد صوتا للتّعبير عنها، إلاّ في ما قلّ وندر، وفي منابر قد تعدّ هامشيّة.

ما علاقة الهامشيّة بالنّظام القائم : هل هي قوّة معارضة له، أم قوّة تطوير، أم هي تخدمه وتؤكّده، كما تؤكّد الجريمة القانون؟ أيّ استعارة أبلغ في تصوير النّظام السّائد وهوامشه : صورة الجسد العضويّ الذي يلقي بفضلاته خارجا عنه ليواصل عمله الوظيفيّ، أم صورة الجدار المليء بالثّغرات والشّروخ، بحيث يمكن اختراقه وتغييره؟ ما العلاقة بين الهامشيّتين، الإراديّة والاضطراريّة، وما العلاقة بينهما وبين هذه الآلة الأخطبوطيّة الكبرى التي نسمّيها “النّظام الاجتماعيّ” أو “النّظام الّسائد”؟

من هم هامشيّو ومهمّشو الأمس واليوم؟ هامشيّو الأمس في مجتمع البداوة أوالتّمدّن نعرفهم، وقد غذّوا خيالنا وثقافتنا ومعرفتنا بالهامشيّة لأنّهم أنتجوا أدبا أو تحدّث عنهم الأدب : صعاليك ما قبل الإسلام، أو “مكدّو” القرنين الرّابع والخامس للهجرة، أولئك الأدباء-اللّصوص الظّرفاء. لكنّ حامل الأدب لا يوضّح لنا علاقتهم بالنّظام : هل الصّعاليك متمسّكون بقيم القبيلة أكثر من القبيلة، لأنّهم يختارون الأخذ بالثّار عندما تريد القبيلة حفظ الدّماء ودفع الدّيات، أم خارجون عن القبيلة ومبدعون لقيم أخرى؟ ومكدّو الجاحظ والهمذانيّ والحريريّ، و”بنو ساسان” ممّن رفضوا حياة الرّفاهية واختاروا التّقلّب والدّوران مع “الدّهر” حيث يدور، هل أبدعوا قيما جديدة أم تباكوا على القيم القديمة؟

ثمّ هناك مهمّشون عابرون للتّاريخ، لكنّ الحداثة أدّت إلى خروجهم إلى العلن، أو جعلت لهم صوتا وطريقا لإثبات الحقّ : منهم من يسمّون اليوم “ذوي الاحتياجات الخاصّة”، ومنهم الأقلّيّات الجنسيّة من مثليّين رافضين للاتّجاه الجنسيّ المفروض، أو متحوّلين جنسيّين رافضين لهويّتهم الجنسيّة والجندريّة، ومنهم “المجانين” الذين وضعوا في مارستانات، ويوضعون اليوم بإرادتهم أو رغم إرادتهم في مارستانات من نوع جديد.

أيّ نوع من الغضب القديم أو الجديد يحمله المهمّشون والهامشيّون؟

وما هي الأشكال المعيشة والممكنة للاحتجاج والمطالبة بالحقّ، بعد تدهور الأشكال التّقليديّة، من مطلبيّة نقابيّة أو وعي ثوريّ ذي منحى ماركسيّ؟ هل يمثّل الجيل الثّاني من حقوق الإنسان، الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة أملا للمهمّشين وإثباتا لحقّهم في العيش الكريم والمسكن اللاّئق والتّعليم والصّحّة؟ وأيّ أمل للهامشيّين في الحفاظ على اختلافهم وحقوقهم في الوقت نفسه؟

ثمّ كيف تتراكب دوائر التّهميش المختلفة؟ لنفكّر في امرأة فقيرة، سوداء البشرة، تنتمي إلى أقلّيّة دينيّة، في بلد لا يمنحها الجنسيّة ولا يحميها من زوج متسلّط أو من استغلال أحد نخّاسي العصر الحديث؟ أليست هامشيّتها أكثر جذريّة من هامشيّة من لا تلتقي عندهم دوائر مختلفة من التّهميش؟ أو لنفكّر في العمالة المهاجرة من فاقدي الحقوق، أو في خادمات المنازل في بعض بلداننا، أليس هؤلاء المهمّشين المضاعفين من “عبيد” عصر ما بعد العبوديّة؟

ثمّ ما شأن الهامشيّات التي تهدّد السّياسيّ والرّابط الاجتماعيّ لأنّها تختار العنف الآجل أو العاجل بديلا عن الكلام والاحتجاج السّلميّ : فرق الفاشيّين الجدد في أوروبّا، وفرق الإرهابيّين الإسلامويّين مثلا؟ هل يحقّ لنا التّمييز بين هامشيّات احتجاجيّة إيجابيّة وأخرى سلبيّة، أو مشروعة وغير مشروعيّة؟

وأخيرا، نكاد نجد في نصّ أبي حيّان التّوحيديّ عن “الغريب” تعريفا ينطبق على الهامشيّتين : الاضطراريّة في قوله : “الغريب من ليس لـه من الحق نصيب”، والإراديّة في قوله : “الغريب من هو في غربته غريب”.

ألم يجمع التّوحيديّ بين الهامشيّتين، في بؤسه المادّيّ وغربته الثّقافيّة المتجذّرة؟ فمن هم توحيديّو العصر الحديث؟ واليوم، هل يمكن أن يجيزوا لأنفسهم الشّكوى بديلا عن الفعل، ومرارة الشّعور بالاضطهاد بديلا عن “البراكسيس”، أي بديلا عن الفعل الموجّه المقاوم للحتميّات؟ ومن نحن، كتّاب اليوم من الطّارحين لسؤال الهامشيّة، وكتّاب المنابر الافتراضيّة خاصّة، ما هو موقعنا من النّظام الثّقافيّ والإعلاميّ وهوامشه؟

نفتح هذا الملفّ، لمزيد ضبط مفهوم يقاوم الضّبط، وسعيا إلى معرفة معمّقة أو مختصّة، مفتوحة على الأسئلة الرّاهنة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى