محمد الرياني - شتاءٌ دافئ.. قصة قصيرة

يقلِّبُ ذراتِ السكر في الكوبِ الساخن ، تتحركُ حباتُ البَرَد فوق الأغصان من فوقه فلا تصل إليه، المقهى المفتوح من جهة المطر يخلقُ أجواء مختلفة وسطَ فصول ومشاعرَ متباينة ، جلستْ إلى جواره خلفَ الطاولةِ الأخرى تفعل مثله، تقلّبُ بملعقتها السكرَ في الماءِ الذي تتصاعدُ أبخرته وسَطَ البرد ، بدت سعيدةً بالفرو الذي أخفى كثيرًا من معالمها باستثناء عينيها الرائعتين اللتين تبرقان كوميضِ الأجواءِ الحاضرة ، يرتدي ثوبًا أسود وَكُوتًا من فوقه اتقاءً لجوٍّ قارس ، مشاعرُه الداخليةُ فاقت عطفَ ملابسِه الثقيلةِ في حفظ توازنِ الحرارةِ في جسمه ، تعمَّد أن يحتسي بهدوءٍ مشروبَه المفضل كي يستمرَ في مراقبة صاحبة المعطف الشتوي ، تجرأت وسألته عما إذا كان البردُ قد جعلَ أسنانَه تصطدمُ ببعضها فلا يحتسي بسرعة ، ردَّ عليها بأنه وَضَعَ احتياطاتِه ، قال لها :ألا ترينَ ما أرتديه ؟ لم تكن تعلم أنه وقَعَ في فخِّ المعطفِ الذي صورَّها مثلَ قطَّةٍ بيضاءَ ناعمة زرقاءَ العينين ، كانت بحق رائعة الجمال ، تقاطيعُ وجهِه تشبه سِيما نجوم الإعلانات مالم يكن أوسم منهم ، البردُ جعلَ بشرتَه تبدو أكثرَ حمرةً لدرجةِ ظهورِ بعضِها في أماكنَ متفرقةٍ من وجهه وساعديه وعلى شفتيه بطبيعة الحال ، لم يقل لها إنه مُعجبٌ بمعطفها فوق ماتتصور، انتهى من الاحتساء ولاتزالُ أفرعُ الشجرةِ تقطر قطراتٍ باردةً تتخللها أحيانًا قطعٌ صغيرةٌ مفتتةٌ تكاد تذوب على الطاولة ، من فرطِ إعجابِه ظلَّ يُفتتها بأصبعيه ويلعقها ، يتذكرُ المطرَ والأجواءَ الباردةَ منذ أن كان صغيرًا تطارده أمُّه لتضعَ شيئًا يقي صدرَه وظهرَه من البرد ، عندما رأته يَلْعقُ بقايا الثلج فعلت مثله بوضعها في الكوبِ الفارغِ الذي رافقَ كوبَ الشايِ عندها ، أخذت تلعقُ الماءَ المتجمدَ وقد أعجبتها القطعُ الصغيرةُ على الرغمِ من حرارةِ شفتيها وحلقِها من المشروبِ الساخن ، سألها عما إذا كان البَرَدُ قد أعجبها ،أجابته بأنها فعلت ذلك لأولِ مرةٍ محاكيةً له عندما رأته يفعل ذلك ، نهضت تريدُ تَرْكَ المكان ، أزالت معطفَها مع بزوغِ الشمسِ وإطلالِها برأسِها لتذيبَ الجليدَ ولايزالُ كوبُه وكوبُها يتجاوران على طاولتين متقاربتين ، شَعَرَ مع إزالتها للفروِ أنه بحاجةٍ لنزعِ الكوت ، رمقتْه بنظرةٍ ساحرة ، قالت له: إنك أجملُ بلا كوت ، مازحها بأن الشمسَ أضافت عليه شيئًا من وَهَجها فغيرت لونَ بشرته ، ثَنَت معطفَها ووضعتْه على يديها ، ثنا كوتَه وَوَضعَه على كتفِه الأيسرِ وغادرَ المقهى ، في اليوم التالي أشرقتِ الشمسُ قبلَ حضوره ،تعمَّد إحضارَ ملابسَ أمس ، وجدَها قد سبقته ترتدي معطفَها ، طلبت كوبين ووضعتْهما على طاولةٍ واحدة ، دعتْه ليقتربَ أكثرَ لتتوحدَ المشاعر ، سحبَ كوبًا باتجاهِه قبلَ أن تفعلَ شيئًا وهي تتعجَّبُ من صنيعه ، ازدادت تحدِّيًا ففعلتْ مثلَ ما فعل ، فجأةً غابت الشمسُ بلا مقدمات ، انهمرَ المطرُ عليهما ، اختلطَ المشروبُ بماءِ المطرِ فلم تشربْ ولم يشربْ ، وَقَفَا تحت السقفِ القريبِ ينتظران انقشاعَ السحاب ، لم يمنع كوتُه ومعطفُها أسنانَهما من الاصطكاك ، قالت إنها تحب ....تحبُّ المطر ، انتظرَ حتى سطعت الشمس من جديد ،قال لها ، أنا أحبُّ رائحةَ المطر ،سقطَ الكوتُ من يده وجثا على ركبتيه يستروحُ البلل.

محمد الرياني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى