السيد نجم - سؤال "الهوية" يتجدد

أثير سؤال الهوية خلال أوائل القرن الماضي (القرن العشرين وما قبله بقليل).. وبعد قرن من الزمان ومع بدايات القرن الواحد والعشرين، يتجدد السؤال حول "الهوية"؟
مبررات السؤال:
بدت مبررات التساؤل على عدة أوجه؛ مرة من خلال البحث عن الذات في مواجهة الآخر المحتل (خلال فترة التطلع إلى الغرب والرغبة في التحرر من العثماني).. ومرة في مواجهة الذات مقابل الآخر (خلال الفترة التالية لحركات التحرر بالبلدان العربية، حيث ورطة الرغبة في تأكيد الذات مقابل المحتل الغربي الذي ذهب وبات علينا مواجهته والتصدي لمحاولة احتوائه للبلدان المتحررة حديثا.. ومرة ثالثة تجدد السؤال مع مطلع القرن الحادي والعشرين في مواجهة الآخر المعتدي الذي في الأثير/الغامض/ الآخر، في مواجهة معطيات ثورتي الاتصال والمعلوماتية، بما تطرحه من أفكار لم تألفها السليقة والعقلية العربية!
يثار السؤال مرة بدافع: البحث عن الذات الجمعية العربية وتعضيدها.. ومرة بدافع البحث عن الآخر واكتشاف مواضع القوة والضعف فيه.. ومرة ثالثة للبحث عن دور مشارك واعي حذر، وربما هو مبرر تجدد سؤال الهواية مؤخرا.
أهم ملامح السؤال عن الهوية المتجدد بالفترة الأخيرة:
: هيمنت فكرة "الثقافة جوهر التنمية" ضمن معطيات ثورتي الاتصال والمعلوماتية.
: "الثقافة" هي السلاح والوسيلة الناجحة للتعامل مع الآخر (الأكثر تقدما).
: الهوية في حقيقة جوهرها، مجموعة من المعطيات الثقافية (التاريخية والتراثية واللغة).
: لا مواجهة حقيقية للنزعات العدوانية التي يتعرض لها الوطن العربي حاليا سوى توظيف التقنيات المعاصرة في تأكيد ملامح الهوية، ومواجهة الآخر المعتدى بها.
: على الجانب الآخر لن تتمكن بلدان العالم العربي من مواجهة الآخر، إلا بمزيد من الفهم والتفعيل لعناصر الهوية، وبتوظيف المعطيات التكنولوجية الجديدة والمعاصرة.
& تبدو "الورطة" أمام الباحث في "الهوية" (حاليا على الأقل) في جملة مفاهيم ومعطيات بل وحقائق يصعب تجاهلها:
: هناك من استطاع إحراز التقدم الاقتصادي، وتحقيق الأمن الجماعي، والتواجد على الساحة العالمية كقوة حقيقية دون توافر كل شروط "الهوية" المتعارف عليها.. مثل: التراث/اللغة/التاريخ/العادات والتقاليد والأعراف/الديانة (الاتحاد الأوروبي نموذجا).
: قناعة البعض من كون "الهوية" ليست أيقونة ثابتة وواحدة على مر التاريخ، بل هي في ديناميكية متحركة بتحرك وتغير الأحوال التقنية والفكرية، فكانت المطالبة بالنظر إلى القديم من خلال رؤية جدية (فقد القديم قدسيته التقليدية).. بفضل الثورة المعلوماتية.
: النظرة المعلوماتية لمفهوم "الثقافة" و"المعلومات".. حيث أن الثقافة هي ما يبقى بعد زوال كل شيء، أما "المعلومات" فهي ما يتجدد دوما ولا يقل ويذهب باستهلاكه (د.نبيل على).
ماذا عن سؤال الهوية في ظل المعلوماتية؟
تعد "الهوية" هي المعيار الذي ترى الجامعة من خلالها رابطة الانتماء الجمعي، فيما تعد بالنسبة للفرد المعيار لهذا الانتماء ودرجته.
أما علاقتها بالمعلوماتية، فتتبدى من خلال وسائلها التكنولوجية (شاشات التليفزيون والكمبيوتر ولوحات التحكم ونماذج المحاكاة.. وغيرها) حيث أن تلك التكنولوجية مرآة لرؤية العالم وبالتالي نرى من خلالها ما يمكن رؤيته من خلال "الهوية"، كما تعد تلك الوسائل معيارا يمكن العمل به.
بذلك تصبح تلك التكنولوجية مثيرا للسؤال الثقافي حول العلاقة بينها وبين الهوية؟
لما كانت "العولمة" مرتبطة بتلك التكنولوجيا الجديدة، مثل ارتباطها بالليبرالية الجديدة (الاقتصاد العالمي الحر- غلبة النمط الاستهلاكي والترفيه والخصخصة وغيرها).. يبدو السؤال عن الهوية مرتبطا بالسؤال عن العولمة؟
وإذا كانت "الهوية" في اللغة والتراث والإنتاج الفكري والابداعى وحتى الدين وكلها أنساق رمزية، فان كل تكنولوجيا المعلومات تعتمد على النسق الرمزي (مثل مفاهيم الكود والشفرة والرقمنه وغيره).. فهو ما يعد التقاء بين مفهوم الهوية والتكنولوجيا المعلوماتية.
أما وقد أضافت التكنولوجيا المعلوماتية مفاهيم أخلاقية جديدة، لا يجب إغفالها في علاقتها بالهوية مثل: أخلاقيات في مجال "التكنولوجيا الآلية وتوظيفها ومجال التكنولوجيا البيولوجية مثل الاستنساخ ومجال الإعلام ومجال الانترنت. وهو ما أنتج مفاهيم قد تلعب دورها في زعزعة القيم التي رسخت منذ أجيال بعيدة وربما قرون..
لا يبقى سوى البحث عن تلك القيم الجديدة وعلاقتها بالهوية؟
لقد نجحت تكنولوجيا المعلومات في تحطيم منظومة القيم القديمة، مثل "ثنائية المادي والموضوعي/ الواقعي والخيالي/ الجماعي والفردي/ الحيوي والفيزيائي" وأضافت قيم الثنائية مثل "ثنائية العليم والتعلم/ الانتاجي والاستهلاكي/ البشرى والآلي.. وغيرها"(نبيل على)
بالتالي فان مواجهة تلك الانقلابات الفكرية، ومن أجل الحفاظ على الهوية فلا حيلة إلا بالارتكان إلى تفعيل رؤية محددة للدرس والبحث:
: أمام التهديد اللغوي (حيث غلبة اللغات الأخرى وخصوصا اﻹنجليزية).. ٳعتبار القرآن نص حاكم للغة العربية (من ناحية النحو والصرف والبلاغة)، واعتبار التراث الشعري والنثري صورة حافظة للغة والعقلية العربية، ولا ينفى هذا تفعيل محاولات تجديد اللغة العربية وإضافة مستجدات عليها(مثل مفردات التكنولوجيا ومعطيات العصر)
: أمام التهديد القيمي (مشكل أخلاقيات التكنولوجيا في المجال البيولوجي والانترنت –مثلا).. يجب المشاركة في الحوار الداخلي والعالمي عن طريق الإعلام والمؤتمرات وغيرها، من أجل تزكية كل ما يتوافق مع مفاهيم قيمنا العربية/الإسلامية.
: أمام التهديد الثقافي والعبث في ثوابت التاريخ والجغرافية والانثروبولوجيا (هناك كم هائل من المتاح ومعروض على القاريء العربي المتعامل مع التكنولوجيا المعاصرة تعبث في تلك الثوابت).. ولأن تلك التكنولوجيا متاحة للأفراد مثلما هي متاحة للجماعة والدولة، فلا بديل عن قيام الفرد قبل المؤسسة على تصحيح تلك الأخطاء والعمل بإضافة الجديد الصحيح.
لعله من المناسب الإشارة إلى عدد من الخطوات الإجرائية التي قد تفيد في مجال الحفاظ على الهوية في مجتمع المعلوماتية:
.. وقفة تقييم ومتابعة للتعرف على الصورة الحقيقية لثقافتنا وملامح هويتنا على شبكة الانترنت.، للوقوف على الثوابت والمتغيرات.. على الجوهر الحقيقى.
.. تفعيل مفهوم "الثقافة تهدف إلى التنمية وفى القلب منها" وبالتالي سيتم إعادة النظر في فى اعتبار الثقافة هي كم معلوماتى، والمثقف هو من يحمل أكبر كم من المعلومات.. الان الاسطوانه الممغنطة الواحدة تحتوى كما يفوق ما يحمله عشرات وربما المئات من المثقفين,
.. كما يلعب "التعليم" دوره من الانتقال من الحفظ والتلقين الى توظيف المعلومات واختيار المناسب منها حسب الاحتياج والضرورة، بحيث يبقى التعليم له صفة الاستدامة، أي بالبحث الدائم يتحول التعليم الى "تعلم" بكل احتياجاته.
.. تفعيل دور "المثقف" وإتاحة الفرصة له لإبراز رأيه وإضافة ما يراه، مع الاحتفاظ بسمة القبول العام أو عدم طرح الآراء الصادمة لمشاعر الجماعة (فكريا وعقائديا)
.. تفعيل مزيد من الأدوار للهيئات والمنظمات والجمعيات المدنية أو الأهلية، بعيدا عن هيمنة الدولة (إلا على الجوانب التي تمس الأمن العام من أموال وأفكار متطرفة).
.. إعطاء "اللغة العربية" اﻹهتمام الواجب في ضوء المطروح الآن من وتكنولوجيا.. ما يعنى تدخل المؤسسات للاعتماد على اللغة العربية فى كل الممارسات حتى تلك البسيطة التى قد لا يلتفت اليها البعض.. مثل اسماء المحال المختلفة باسماء افرنجية وبحروف عربية او لاتينية.
.. الإقرار بحقيقة "التعددية" سواء الاثنية أو الدينية أو الكيانات الصغيرة المحلية على أي تكوين انثروبولوجى أو ديني وغيرها.
.. تنمية مفهوم "الحوار" و"قبول الآخر"، في ضوء ثوابت الحق الوطني والقومي.
خاتمة..
ٳن قضية "الهوية" ليست قضية ذهنية مجردة ، ولا هي قضية عاطفية في القلوب، ولا هي ٳنفعالية.. تعد الهوية قضية مصير، وعلى قدر أهميتها تحتاج إلى قدر وافر من التأمل والمشاركة ثم التفعيل وإزكاء مفاهيمها لدى الأجيال الجديدة، تلك الأجيال التي هي موضوع الهوية!




أعلى