إبراهيم البهرزي - "مذكرات سجين"..

"1" الاٍرهاب والإعراب

خلال اقامتي الاضطرارية في السجن العراقي تعرفت على ارهابيين ، بعضهم كان فعلا ارهابيا حقيقيا ، والبعض الاخر كنّا نسميه بلغة السجن ( اللاحوگ ) وهو من لفقت عليه قضية ارهابية دون حجة ولا دليل فالجاته الضرورة ان يكون في السجن مع ( حضائر) الاٍرهاب

والحضائر هي تشكيلات كيفية تفرضها إدارة السجن لمتطلبات الإعاشة والتعداد ، حيث يتطلب على كل مجموعة من السجناء ان تنتظم في حضائر طوعية تتكون من فردين صعودا حتى العشرة وربما اكثر وبحسب مزاج مراقب القاعة ( وهو سجين تختاره إدارة السجن ليكون وسيطا بينها وبين السجناء ) وحسب مزاج ضابط الموقف ومزاج السجناء أنفسهم ايضا !

من خلال. عشرتي مع الإرهابيين الحقيقيين والارهابيين ( اللواحيگ ) خلصت الى حقيقة ثابتة مفادها انهم جميعا من الاعراب ( سأحاول فذلكة تفسير لهذه التسمية اخر المقال ، فذلكة شخصية غير ملزمة ) وأنهم جميعا من الأميين او محدودي التعليم لا يتجاوز الإعدادية بكل الأحوال وأنهم في الأغلب الاعم من ذوي المهن الحرة البسيطة او من أبناء العشائر او من العناصر الوسطى للجيش السابق ( عرفاء ونواب ضباط ). من الذين تم تسريحهم دون مزايا مادية ولأسباب شتى ( من المؤكد ان بعضها طائفي بدلالة استمرار أقرانهم بالخدمة والامتيازات لمجرد انهم من طائفة اخرى ) كما ان بعضها يعود الى غباء المراجع الدينية لطائفتهم التي حرمت

عليهم باديء ذي بدا العودة الى وظائفهم العسكرية

جعل السجن الطويل من بعض هؤلاء عقولا صماء من المحال إقناعها بمجرد معاودة النظر في افكارها ( بعضهم أمضى في السجن قرابة السنوات العشر دون حكم قضائي. وأحيانا دون قضية غير الاشتباه !)

كان العناد مرجعه ،كما اعتقد ، ليس الى قوة العقيدة ، فأغلبهم جاهل نصوصي لا يجيد الاستنتاج ولا الاستنباط ولا التحليل قدر اعتماده على حفظ النصوص المقدسة واستظهارها مرارا وتكرارا بمباهاة العارف الضليع ، ومن هذا ايقنت ان مثل هؤلاء لن تغيرهم الحياة ، الموت وحده ربما سيغير منهم شيئا !

كانوا مأخوذين بفكرة انهم مطلوبون طائفيا وان الحاكم والسجان والمحقق والواشي والإذاعة والتلفزيون والشاهد والمحامي كلهم جميعا أدوات لتركيعهم واذلالهم او ابادتهم لأسباب تاريخية مقدسة !

في الحقيقة كان البعض منهم على حق نسبي اذا صدقنا ما يروون عن مجريات التحقيقات شديدة القسوة التي عانوها وما سمعوا من نكايات وتجريحات بذيئة خلال أطوار التحقيق

بعضهم ربما يكذب ، ولكن ليس كلهم ، فهناك. ما يدعم مزاعم البعض ، على الاقل في القليل الذي لمحته عرضا في سلوك بعض المحققين والحرس لحظات الغضب المقدس !

الطقوس التي تتشكل في. ليالي و نهارات السجن المملة تدفع الى التكتل ( وهوممنًوع رسميا لكن حضره يزيد من تاكيد وجوده !)

يملك هؤلاء الاعراب الارهابيون منهم والمتهمون زورا. قيما عشائرية تعلو على كل قيمة مقدسة اخرى رغم إدمانهم المتواصل على الطقوس الدينية !

فحين تتعارض قيم الدين مع قيم العشيرة فان العلوية تكون للعشيرة ! مع مقدمات من النصوص المقدسة لا تعدو ان تكون مجرد تعاويذ لا تودي شيئا من معانيها الحقيقية ، وربما يكون الفعل متعارضا تماما مع مضمون هذه النصوص ولكنه يحظى في الاخير بقبول الجميع وكأنه واجب اخلاقي لابد منه

يحفظون بدقة لغوية عالية كل النصوص المقدسة ( يصححوا لك ان اخطات بهمزة ! ) لكنهم لا يعولون على المعنى

المعنى هو ما يكون متيسرا للغاية الانية

هم لا يعرفون شيئا عن ميكافيلي وفلسفته ، لكنهم يمارسونها بحرفية عجيبة

لا تعاند الاعراب في شيء ، فأنت الخاسر حتى وان كان الله معك

انهم ، على شحوب علمهم وفهمهم يعتقدون ، بسبب الفهم العشائري للمقدس ، بأنهم على صواب دوما حتى وان أخطأوا ، لان المقدس كما يعتقدون لم يخترهم الا لأنهم على حق بالفطرة ..

يسهل قود الاعراب الى ممارسة الاٍرهاب بسبب هذه القطيعة التي مارستها الدولة العراقية معهم عبر تاريخها وتركهم نهبا لتلك القيم العبودية التي أرساها شيوخهم لتنظيم حياتهم ، كل شيء في حياتهم قائم على قنونة الامتهان ، امتهان الشيخ لفلاحيه عرف جليل ، امتهان الرجل لزوجته ونساء بيته من مكارم الأخلاق ،امتهان الدولة لمواطنيها من وجوبيات النظام ، امتهان رجل الدين لتابعيه من وجوب الطاعة والإيمان

لاشيء عندهم يفكر ويتساءل

ان حرف (لماذا ) عندهم، مثلا ،هو أنكر الحروف

يطيعون ما استطاعوا المنافع العاجلة سبيلا

لأجل هذا كانوا يطيعون أكرم الدافعين

وكان بعض الذين خسروا الامتياز السلطوي كريما بما تبقى له من مواريث مال السلطةً اضاقةً لممالك غنية مجاورة كانت تخشى من القادم الغامض الجديد فراحت تنعش العدو المعروف القديم

تحت راية ان باسهم بينهم ،اضافة بالطبع للأهم وهو الإعلان الصريح لطائفية الدولة عبر المسميات المعلنة لمكوناتها السياسية الطائفية ما دفع الى الريبة وعدم الشعور بالامان وما يرافق ذلك من تحريض دولي يستغل هذه المخاوف التي. لم تفعل السلطة شيئا جديا وعمليا لإزالتها وتطمينهم

***

الاعراب بحسب تقديري المتواضع هم سكان القرى النائية ، فكلما بعدت مسافة القرية وانعدمت سبل المواصلات المعبدة عن مراكز المدن كلما كان تواصل اَهلها. قليلا مع المدينة ومؤسساتها. الحضارية ( المكتبات ، دور السينما ، النوادي ، النقابات والجمعيات ، المقاهي ، الاسواق العامرة .. الخ )

حسب ملاحظتي رأيت. ان المسافة كلما زادت عند حد إمكانية الوصول من القرية للمدينة مشيا. او على دراجة هوائية ، او كلما عدمت الطرق المعبدة بين القرية المعنية والمدينة فانه يصح على سكانها ان يسموا بالإعراب ، وهم جميعا لهم لهجة تختلف عن لهجات سكان المدن وطبائع تختلف عن طبائعهم وأزياء. مختلفة ايضا

تكاد ان تكون مسافة بين خمسة الى عشرة كيلومترات ومايزيد بين ا القرية والمدينة كاف لان يصبح سكان هذه القرية من الاعراب

هذا ما لاحظته واقعا

يطلق على الاعراب في المدن وضواحيها القريبة مفردة ( عُرْبي)

ولا اعتقد ان في الامر تحقيرا لهم فهم أنفسهم غالبا ما يقولون نحن ( بابة عرب )

واغلب الاعراب درسوا في مدارس المدن وفيهم من تخرج من الجامعات غير ان الغالب على توجهاتهم هو امتهان المهن العسكرية والشرطوية والأمنية هذا ما لاحظناه منذ السبعينات حتى عام ٢٠٠٣ وربما استمر لما بعد ذلك

غير ان الملاحظ هو انهم حين ينتقلون للمدن او ضواحي المدن فانهم لا يكتسبوا العادات المدنية بل بالعكس فانهم يفرضون العادات الريفية على المدينة ، هذا اذا أضفنا. انهم بمواقعهم الوظيفية العسكرية والأمنية استطاعوا ترييف عموم المدن التي سكنوها

وبسبب هجرة اغلب الطبقة المتوسطة من أهل المدن وعزوفهم عن المناصب في الدولة تعاليا على المناصب التي ماعادت جديرة بالاحترام حسب رأيهم. وتفرغهم للجانب المهني من الوظائف فان أبناء القرى صاروا يحكمون المدن ويسيطرون على كل مناصبها وهو ما أدى الى ترييف قيم هذه المدن بالمرة...

يتبع


***


"2" جماعة 56

أكثر رواد السجون عددا بعد المتهمين بالارهاب هم المتهمون والمدانون بالنصب والاحتيال وفقا لاحكام المادة ٤٥٦ من قانون العقوبات ، لذا صار يطلق عليهم اختصارا ( جماعة ٥٦) كنت تحدثت في مقال سابق عن هيمنة الاٍرهاب على سكان القرى فأثار الامر حفيظة بعض المنحدرين من القرى توهما باني أسيء لشريحة من المجتمع انا في الأصل منها ، وهذا ناشئ من القراءات العجلى او النوايا المسبقة عند القراءة وهو اجحاف بحق القارئ والكاتب والموضوع حيث كان.

حسنا ، ها انا اتحدث عن فئة من المتهمين والمدانين هم في غالبيتهم العظمى من سكنة المدن ، فالنفس البشرية في هفواتها وظلمتها لا تقتصر على بيئة اجتماعية معينة، فكما يترك الجهل ثغرة في النفس لعبور دوافع الجريمة الإرهابية فان الفطنة والحذلقة التي تسم أهل المدينة. يمكن ان توظف لأجل الشر بجهلها وذكاءها، بفطنتها وسذاجتها، يجد الشر مدخلا للنفس بسبب الطموح الغير مشروع لنوال مكاسب ومغانم دون وجه حق ( وأحيانا أسوة بالآخرين ! كما يقولون، ويعنون بالآخرين محدثي النعمة من أهل السياسة والطوائف والمناصب الاعتباطية الذين يعرف هؤلاء حق المعرفة ما كانوا عليه وما صاروا اليه )

هؤلاء هم عكس أولئك الذين تناولناهم في موضوعة الاٍرهاب ، فأغلبهم من الشباب. المنفتحين على الحياة ومن سكنة المدن ( وبعضهم سليل عوائل معروفة ) وممن يتمتعون بروح النكتة واللامبالاة ازاء كل التوقعات.

صنف عجيب:

سالت احدهم وهو المدان بمبالغ تتجاوز الملياري دينار :

هل تتوقع ان. يطلق سراحك يوما ؟

قال ضاحكا : بالتأكيد .. وليس بعيدا

قلت وماذا ستفعل بعد إطلاق سراحك

اجاب : اعود الى نفس عملي طبعا !

ويقصد النصب والاحتيال ( او التقفيص )

لا يملك هؤلاء طبعا ثمن السكائر في السجن ، لا يزورهم احد من اهاليهم ، هم جزر منفردة ، وحين تسألهم. أين ذهبت كل تلك الأموال التي. نهبوها

يقولون لك : راحت !

وفِي جلساتهم الخاصة التي تمتد طول الليل. تسمع منهم سيرة حياة البذخ التي استهلكت اموالهم ( احدهم. وبتأكيد من كل رفاقه ممن يعرفونه قبل السجن صرف اكثر من مليار دينار على مطربة لبنانية دون ان يحظى بالنوم معها ! وهو سعيد بذلك غير نادم على كل ما صرف )

يمتلك هؤلاء البشر حسا مأساويا بالحيف :

فلان وعلان من سقط المتاع ما كانوا ليمتلكوا دراجة هوائية

صاروا يملكون أحدث السيارات. ويحظون بأجمل النساء. ويمتلكون أفضل العقارات ، بماذا هم أفضل منا ، هم نصبوا على الشعب ونحن ننصب على الحكومة !

هكذا كانوا يبررون جناياتهم

ان السفاهة التي يمارسها بعض محدثي النعمة من أهل المناصب. وأهل السياسة وابناءهم المراهقين ،من مغالاة في البذخ متأتية من حرمان عتيق وخراب عميق متوغل في نفوسهم. يدفع البعض الى الإيمان المطلق بزوال كل رادع عن مال الدولة واموال الناس ، فهولاء القيمون على الأمور. ينهبون كما شاؤوا ويتمتع ابناءهم من عديمي المواهب والكفاءات. بكل متاع الدنيا علنا ، فلم نحرم أنفسنا ويحرموننا هم من هذه الغنائم ؟

يملك البعض من الناس خليطا من الجسارة والابيقورية يدفعهم لاقتحام اكبر الخطايا دون اي تفكير بالعواقب ، وهم على حق احيانا في قناعاتهم حين يضربون لك الأمثال بمن. نهب. وأفلت من العقاب ، متخذين من هؤلاء حجة على إمكانية إفلاتهم من اي عقاب أسوة بالآخرين المعروفين كما يقولوا !

يتحدث هؤلاء. عن علاقات واسعة وشراكات مع أولي الامر في بعض مفاصل الدولة والحكومة مؤكدين انهم ما كانوا ليمكنهم ان يمرروا احتيالاتهم لولا التسهيلات والشراكات. مع هؤلاء الذين ما زالوا بمناصبهم يمارسون الحيل الرسمية والشرعية مع شركاء اخرين سيدفعون الثمن بدلا عنهم مقابل ثراء عاجل سرعان ما يتبدد ..

انهم يتحدثون عن مافيات مقننة متضامنة مع بعضها تمتد الى كل السلطات المتنفذة مالية وسياسية وحكومية وأمنية وقضائية ودينية بحيث يصعب الايقاع بها ويستحيل تثبيت واقعة الادانة بحقها بسبب هذه المظلات المتساندة

سأتحدث عن مثالين فحسب

(ل.ك) عمل سائقا لأحد الوزراء الذين استوزروا مرارا ، وفِي احدى حقائبه الوزارية وجد صاحبنا (ل ) ان الناس صارت تتقرب اليه بحكم كونه سائق الوزير لتمشية سلف مالية من المصارف ، يقول لي انه وجد ان هذه السلف تعطى على الهباء ( على الماكو) اي ان اي فرد متنفذ يمكنه ان يقدم مجموعة أوراق من السهل توفيرها. ليحصل على قروض بالملايين وأحيانا بالمليارات ، بدا له بعد ان تعلم من هؤلاء الطرق اللازمة ،اضافة لعلاقاته بموظفي تلك المصارف ان السبيل الى الثراء صار في متناول اليد قدم استقالة من وظيفته كسائق للسيد الوزير واستأجر أرضا متروكة واستلم قرضا بالملايين انشأ ببعضها حقلا للدواجن ومن خلال هذا الحقل. صار. يستلم الفروض ويدين ويستدين بآلمال اليابس الذي عنده ( يسمون النقد مالا يابسا ) وصار يصرف ويبذر فأجل السداد للدولة بعيد ، خمس سنوات وأكثر ، وألف عمامة ستقلب خلالها ! ، تعرف خلال اعمال البذخ على ( فنانات !) من بغداد صار يستضيفهن في حقله ، ترك زوجته وهي قريبته ، وصار يصول ويجول في عوالم المتعة. مبددا جوعه القديم

حتى حانت ساعة السداد

لم يبق في الحقل ما يكفي لسداد عشر القروض والديون التي تتراكم بالفائض

وها هو الان محكوما بدين يبلغ ثمانمائة وخمسون مليون دينار

من أين ستسددها يا (ل) ؟

من أين اسددها وابي قصاب فقير يشتري الذبيحة بالدِّين ؟

لا احد يسدد لأحد

المهم (فنانات ! ) ويصفق بيديه ضاحكا ...

الاخر هو (ر.ج) في أواسط العشرينات من عمره وهو سليل عائلة متمكنة بلغت حجم مديونيته حتى الان اكثر من ملياري دينار ،

ويقول. ان الديون الأكبر لم تظهر بعد !

كان هذا مع شبكة اخرى من المتنفذين مطلقي السراح. يقفص على الفلاحين ، يأتي لهم بسندات أراضي زراعية ويأخذ. مستمسكاتهم الرسمية للحصول على قروض لمشاريع زراعية. ، حقول أبقار ، منظومات ارواء ، معامل علف ، استيراد معدات واليات زراعيةً، يرتب كالقروض بالتعاون مع اعلى المستويات. ويستلمون الصكوك ويتقاسمونها ويعيد المستمسكات للفلاحين بحجة ان المعاملة. لم تنجز بعد ،مع بضعة ألوف من الدنانير يرضى بها الفلاح صاغرا

قلت له من أين لك كل هذه المساحات من الاراضي

قال انها من وقف السيد عبد القادر الكيلاني !

ثم يضحك مستطردا:

لو حسبنا وقف السيد الكيلاني الذي اخذنا عليه قروضا. لوجدنا ان هذه الاراضي. تفيض عن العراق وتغطي ايران وباكستان وافغانستان

كانوا يزورون تلك العقود بعلم وتواطؤ جميع الجهات ولكل ثمنه وأجره

بعض القروض لن يحين سدادها قبل عشرة سنوات ، يكون كل المساهمين في فبركتها قد اشتروا فللا وعقارات في عواصم الدنيا

الجميلة ، وموت ياحمار لما يجيك. الربيع

وأين راحت. هذه الملايين

يقول( مال الماي للماي ومال اللين للبن )

هو يعرف جيدا انها مال حرام !

ويضحك عاليا ، شركائي الكبار لن يتركوني وحيدا في السجن ، هكذا يقول. مطمئنا

لكنهم تركوه يستجدي السكائر. ويعمل عنقرجيا ( ينظف الفضلات )

وغير هذين المثلين. نصابون شتى في مختلف مفاصل الدولة ،

وفي كل مفصل طريقة نصب عجائبية ... يتبع


***


"3" : قطة وريشة وفراشة

مع ازدياد سطوة البرد يزداد منسوب الحنين ، هذا بالنسبة للأحرار كما عهدت حيث مرت علي سنوات حياتي الحرة ، لم تكن حرّة تماما ، لكني كنت اخادعها بقناعات الحرية ..

اما بالنسبة للسجين ، فالحنين كما خبرت احواله ، كان يتمتع بضراوة ووحشية مخيفة ، كنا على وشك مغادرة العام والدخول في عام جديد وصارت تلازمني نوبات برد شديدة .

الزنزانة خالية من أية وسيلة تدفئة ، ولم تكن. لتحتاج مثل هذه الوسائل ، فحسبك ان تعرف ان زنزانة بحجم 100 متر مربع محشور فيها اكثر من ثمانين نزيلا كانت انفاسهم تعوض عن أية وسيلة تدفئه.

كنت محشورا بالمساحة المتاحة لي ( نصف متر*متر ونصف ) لا حق لي بتجاوزها ، متلفعا ببطانية ثخينة وفروة صوف أهداني إياها احد الأصدقاء في زيارةً سابقة ، متمددا او مقرفصا ، فلم أكن لأنام اكثر من ساعة او ساعتين في اليوم في عادة ستلازمني حتى بعد انتهاء مدة السجن

قال لي ضابط الموقف يوما خلال تفقده الليلي :

هل انت شيخ عشيرة

أجبته دون تعجب او طول تفكير :

لا انا ابراهيم.

قال : هذه الفروةً التي ترتديها هي فروةُ شيوخ ، وهي ممنوعة في السجن

خلعت الفروة وفِي اول مواجهة تالية ارسلتها للبيت ،فقد حدست انه يريد مصادرتها ..

لم اشعر بالدفء مطلقا طوال شتاء السجن ، وبالتالي لم يفارقني الحنين ساعة الحنين كان لاشياء كثيرة أحببتها في حياتي السالفة بين أهل وصديق ، ولكن كان هناك حنين من نوع جارف لوجه كان حبي له بمثابة معادل للطمأنينة والفرح اللذين افتقدتهما طوال حياتي ،حرا او سجينا وحيث لم أرد لوجهها الجميل ان يكون سجينا معي ،ولو لمجرد الخيال ، فقد كنت انظر لوجهها عبر فتحة للتهوية صغيرة كانت في سقف الزنزانة ليلا ونهارا كنت اتطلع لوجهها الطيب المبتسم المطل علي كملاك من هناك ..

في فجر بارد سمعت مواء قطة ورايتها تطل من ذات فتحة التأملات، كانت قطة حقيقية ، ربما ذكرتني شقرة فروها. بشقرة الوجه الغائب الذي احببت

لعدة ايام بقيت مستأنسا بمواء القطة في زورتها الفجرية ،حتى قال بعض السجناء لحرس السجن :ان هذه القطة النجسة تزعجهم بموائها كل فج.ر

صعد الحرس ،كما اخبرنا تاليا ، ووجد انها تعيل عددا من القطيطات الصغيرات. اللواتي حملهن والقاهن في السوق القريب من السجن ، فتبعتهن الام ، وغادرت معهن الى الأبد ..

في غروب مساء بارد هبطت من الشرفة ريشة عصفور ، كانت ريشة هفهافة من ذلك النوع الزغبي ، ظلت تتطوح في الهواء نهضت اتابعها لأحاول إمساكها. ، تعثرت بأكثر من سجين راقد وجالس في محاولتي لإمساكها ،سمعت كلاما محتجا من بعضهم وساخرا من اخرين ، لم يمنعني من المطاردة ، كانت هذه الريشة الهابطة من هناك هي كل الحياة الحرة القادمة من هناك ، من خلف هذه الجدران ، وكانت هذه الريشة هي انفاس ذلك الوجه الذي احب والذي يخيل لي دوما من تلك البقعة الصغيرة من الزرقة ، إمسكتها فرحا. بعد طول طراد ، تأملتها بين يدي ،كانت رهيفة ناعمة مثلك ِ ، مثلك ِ ِ، هكذا كنت اهمس لها ،ثم وضعتها في محفظة ورقية كنت صنعتها من علب السكائر ، وبقيت محتفظا بها حتى إطلاق سراحي ، انت من المؤكد من ارسلتها لي ، فكانت. الحياة معها ،كل الحياة ريشة ، والحريّة ريشة ، والقلب ريشة ...

ومع اخر ايام البرد ،وفِي ظهيرة مملة دخلت من فتحة التهوية فراشة شاردة ، كانت بهية الألوان بشكل يقطع رتابة اللون البني الموحد الذي يسم ملابس السجناء .تهبط قليلا وتعلو ، لكن السجين (.....)وهو جلاد سابق قبل سجنه ، جلاد حقيقي مخضرم في النظامين السابق واللاحق ، لاحقها بجسده الضخم المديد. وفِي محاولته لإمساكها. هصرها بين راحتي يديه الضخمتين وحين فتح يديه لم تعد هناك منٌ الفراشة غير لطخة زرقاء حمراء

- انجعصت

قال وقهقه ضاحكا:

افتعلت النوم الكذاب ، تناومت كعادتي ، أضع. البطانية على وجهي لاستر عن الاخرينً دموعي لقد قلت لي ، قال لي ليلتها وجهك البشوش الذي يطل علي كل مساء من تلك الفتحة الصغيرة من سقف الزنزانة :

يا ابراهيم لماذا تركت فراشتي تموت ؟

***


"4": فارقتهم مُذ صاروا أهلي وصرت ابنا لهم ...

مجيد شياع العطا ،مجنون رسمي وموقوف أبدي لدى الشرطة ، تهمته الوحيدة هي التشرد ( نعم. هنالك نص قانوني في العراق يحاسب على هذه الواقعة ، ويبدو انه قد تم تشريعه قبل ان يصبح كل العراقيين مشردين فعليا!)

حين يشتد الجنون على مجيد يقدم ملفه الى القاضي مشفوعا بالتقارير التي تؤيد. عدم سلامته العقلية فيحيله القاضي الى الشماعية ( مستشفى الرشاد ) ثم لا يلبث بعد شهور قليلة ان تعيده الشماعية الى السجن لانتهاء فترة علاجه ،

وهكذا دواليك ، سنوات مرت وهو يتم تداوله بين الشماعية والسجن

اعرف ان علاجه هذا لا يتعدى غير الصدمات الكهربائية للراس . التي تبلد حسه لفترة مؤقتة وتجعله عاقلا فعلا !

أليس الكائن الصامت عديم الحس والشعور بعرفنا هو الكائن العاقل ؟!

لكن مجيد لا يلبث شيئا فشيئا، ان يستعيد جنونه الجميل

جنون مجيد على مستويين:

المستوى المرح الذي يعبر عنه بغناء ومواويل في أية. ساعة يعجبه ، وغناء مجيد من نوع التأليف الفوري للكلام ، الكلام الذي لا معنى له احيانا والذي يتم غناءه على لحن شائع (لماذا ينسى المجانين نصوص الكلمات ويتذكرون الألحان بدقةً؟!)

وهذا مستوى مقبول يأنس له السجناء جميعا بما في ذلك الذين في قلوبهم غلظة وهمجية

اما المستوى الاخر فهو المشكلة ، حيث يخوض مجيد جدالات ذاتية بين طائفتين هما ( أهل طيبة ) و( أهل السلام ) كما يسميهم ، جدالات تنتهي بالشتم لرموز كلا الطائفتين ، ما يجعل المتعصبين ومن كلا الطائفتين يتناولونه ضربا ورفسا حتى ينكفيء صامتا خائفا لعدة ايام ثم لا يلبث ان يعاود ممارسة جنونه وعلى ذات المستويين.

لا اعرف ما سر كراهية مجيد للطائفتين الكريمتين . مجيد كان معلما في مدرسة القوات الخاصة قبل ٢٠٠٣ وبعدها جن لأسباب غامضة لم يستطع احد من تفسيرها

هو مغرم بمجندة أمريكية اسمها ( فرنكا ) كما يقول وهي يهودية ومغرم ايضا بمعلمة مسيحية اسمها ( مريم ) ومغرم بفتاة من أهل ديرته ( الحسينية ) اسمها فاطمة ويخوض معهن أحاديثا غرامية هامسة. تستغرق الليل كله ، بل لا يتوانى عن ممارسة الجنس مع إحداهن علنا دون التفات لصياح السجناء !

نادرا ما كنت انام ( ربما ساعة واحدة في اليوم ) فكنت مضطرا للإصغاء له والانتباه لفعالياته طول الليل ، انتبهت له فجرا وهو يدور حول نفسه متاففا ضجرا فخشيت ان يبدر منه تصرفا لا تحمد عقباه . كنّا لوحدنا مستيقظين في ذلك الفجر ذهبت اليه وامسكته من كتفيه : مجيد ... ولك مجيد شبيك؟

هدأ ونظر الي نظرة حزينة لن أنساها ما حييت ، ثم قال بكل هدوء :

مشتاگ ... مشتاگ يا خوي لاهلي .. من زمان ما شايفهم

قلت له :

من يمته ماشايف اهلك ؟

قال : من زمان ... من زمااااااااان

يعني .. من يمته ؟ قلت له

قال:

ماشايفهم

من يوم اللي همه صاروا أهلي وآنه صرت ابنهم !-فارقتهم مُذ صاروا أهلي وصرت ابنا لهم ...

مجيد شياع العطا ، مجنون رسمي وموقوف أبدي لدى الشرطة ، تهمته الوحيدة هي التشرد ( نعم. هنالك نص قانوني في العراق يحاسب على هذه الواقعة ، ويبدو انه قد تم تشريعه قبل ان يصبح كل العراقيين مشردين فعليا!)

حين يشتد الجنون على مجيد يقدم ملفه الى القاضي مشفوعا بالتقارير التي تؤيد. عدم سلامته العقلية فيحيله القاضي الى الشماعية ( مستشفى الرشاد ) ثم لا يلبث بعد شهور قليلة ان تعيده الشماعية الى السجن لانتهاء فترة علاجه ،

وهكذا دواليك ، سنوات مرت وهو يتم تداوله بين الشماعية والسجن

اعرف ان علاجه هذا لا يتعدى غير الصدمات الكهربائية للراس . التي تبلد حسه لفترة مؤقتة وتجعله عاقلا فعلا !

أليس الكائن الصامت عديم الحس والشعور بعرفنا هو الكائن العاقل ؟!

لكن مجيد لا يلبث شيئا فشيئا، ان يستعيد جنونه الجميل

جنون مجيد على مستويين:

المستوى المرح الذي يعبر عنه بغناء ومواويل في أية. ساعة يعجبه ، وغناء مجيد من نوع التأليف الفوري للكلام ، الكلام الذي لا معنى له احيانا والذي يتم غناءه على لحن شائع (لماذا ينسى المجانين نصوص الكلمات ويتذكرون الألحان بدقةً؟!)

وهذا مستوى مقبول يأنس له السجناء جميعا بما في ذلك الذين في قلوبهم غلظة وهمجية

اما المستوى الاخر فهو المشكلة ، حيث يخوض مجيد جدالات ذاتية بين طائفتين هما ( أهل طيبة ) و( أهل السلام ) كما يسميهم ، جدالات تنتهي بالشتم لرموز كلا الطائفتين ، ما يجعل المتعصبين ومن كلا الطائفتين يتناولونه ضربا ورفسا حتى ينكفيء صامتا خائفا لعدة ايام ثم لا يلبث ان يعاود ممارسة جنونه وعلى ذات المستويين.

لا اعرف ما سر كراهية مجيد للطائفتين الكريمتين . مجيد كان معلما في مدرسة القوات الخاصة قبل ٢٠٠٣ وبعدها جن لأسباب غامضة لم يستطع احد من تفسيرها

هو مغرم بمجندة أمريكية اسمها ( فرنكا ) كما يقول وهي يهودية ومغرم ايضا بمعلمة مسيحية اسمها ( مريم ) ومغرم بفتاة من أهل ديرته ( الحسينية ) اسمها فاطمة ويخوض معهن أحاديثا غرامية هامسة. تستغرق الليل كله ، بل لا يتوانى عن ممارسة الجنس مع إحداهن علنا دون التفات لصياح السجناء !

نادرا ما كنت انام ( ربما ساعة واحدة في اليوم ) فكنت مضطرا للإصغاء له والانتباه لفعالياته طول الليل ، انتبهت له فجرا وهو يدور حول نفسه متاففا ضجرا فخشيت ان يبدر منه تصرفا لا تحمد عقباه . كنّا لوحدنا مستيقظين في ذلك الفجر ذهبت اليه وامسكته من كتفيه : مجيد ... ولك مجيد شبيك؟

هدأ ونظر الي نظرة حزينة لن أنساها ما حييت ، ثم قال بكل هدوء :

مشتاگ ... مشتاگ يا خوي لاهلي .. من زمان ما شايفهم

قلت له :

من يمته ماشايف اهلك ؟

قال : من زمان ... من زمااااااااان

يعني .. من يمته ؟ قلت له

قال:

ماشايفهم

من يوم اللي همه صاروا أهلي وآنه صرت ابنهم !
أعلى