الدكتور السعيد بوطاجين - الجماعات الأدبية المسلحة

الظاهر أنّ لكل السياقات التاريخية والثقافية مجموعة من الشواذ والكتّاب المزيفين الذين لم يفهموا السرد، ومع ذلك يريدون أن يكونوا كتابا بالقوة، مع ما لهذه الظاهرة من مخاطر عندما تجد دعما في شبكات التواصل الاجتماعي، أو عندما تغدو هذه المنصات وسيلة من وسائل تدمير الأدب بالدعاية لنصوص لا قيمة لها فنيا وجماليا، وقد أشار أمبرتو إيكو إلى هذه المشكلة بكلمات بسيطة وعميقة.
الكتابة قراءة ومعرفة ومراجعة وصناعة ومسؤولية، وهي تمييز بين الأجناس الأدبية، بين المقالة والقصة القصيرة والخاطرة والرواية كبديهيات، إضافة إلى قضايا الأشكال واللغة والموضوعات والرؤى والمراجعات. لقد كتب ليون تولستوي رواية الحرب والسلم في مدة قدرها 13 سنة، فعل ذلك بمعاوداتوصلت إلى 12 مرة، وهو ما قام به الشاعر والت وايمان في ديوانه “أوراق العشب” الذي أصبح يطبع في مائة مليون نسخة لقيمته التي أسهمت في تغيير ذائقة الأمريكيين.
كما ظل القاص الروسي أنطوان تشيكوف يردد مندهشا: إني أتساءل عن سبب إعجاب الناس بما أنشره؟ كان يرى أنّ كتاباته لا تستحق أيّاهتمام، مع أنها غدت مرجعا عالميا كظاهرة سردية استثنائية في تاريخ القصة القصيرة في العالم، كما حدث مع غوغول الذي اعترف الكتاب الروس بأنهم خرجوا من تحت معطفه، لكنه ظلّ بسيطا. أمّا عندنا فيصرح أحد هؤلاء الجدد ليومية وطنية قائلا بعد صدور أول مجموعة له: “لقد جئت للقضاء على كتّاب القصة الذين سبقوني”. كُتب ذلك بالبنط العريض، كما لو أنّ الجريدة استحسنت ذلك معتقدة أنها أمام زعيم بصدد القيام بفتوحات جديدة.
أسواق التصريحات والحوارات والعناوين مدهشة جدا، ومقرفة، مع أنّ كثيرا مما ينشر غير قابل للقراءة لأنه عبارة عن موضوعات إنشائية مليئة أخطاء. لقد اطلعت على جزء مما ينشر، كما قرأت مجموعة قصصية بها قرابة 800 خطأ نحوي وإملائي، وعلى تجارب نثرية لا تستساغ بسبب الفجوات التي لا تعدّ، بداية من العنوان. عندما تنشر مشروع “كاتبة” في العشرين من عمرها شيئا تسميه “رؤيتي للحياة” فمعناه أنها جربت وعرفت واكتملت وانتهت، وهي تمرر للمتلقي حكمتها التي تعلمتها خلال هذه الفترة القصيرة. لا يحدث هذا سوى مع الشاعر الفرنسي أرتور رامبو الذي كان عبقرية استثنائية في سنّ مبكرة، قبل أن يتوقف عن الكتابة ويصبح مهرب أسلحة في إفريقيا.
من المعروف أنّ الكاتب الأمريكي هنري ميللر قوّض مفهوم الرواية العالمية وأرسى تقاليد جديدة لهذا الجنس الاشكالي، وعندما بلغ الثانية والسبعين صرح في حوار قائلا: “الآن بدأت أتعلم معنى الكتابة”. لكنه لم يفهم الحياة رغم أسفاره بين القاراتومطالعاته ولقاءاته واحتكاكه بالحضارات والديانات والآداب والفنون والكتّاب العالميين والفلسفات والمدارس والحكماء والصعاليك والمجانينوالبوهيميين، كما يظهر في مؤلفه العجيب: “الكتب في حياتي”.
بعد كلّ هذه التجربة وصل إلى مرحلة من العمى، إلى أسئلة أخرى أخذها معه إلى العالم الآخر عله يجد لها أجوبة. لقد عرف ضياعا آخربعد حياةنادرة في التاريخ البشري برمته. ماذا ترى فتاة في العشرين لم تخرج من دوارعبارة عن نفايات وبناءاتفوضوية لتكتب رؤيتي للحياة؟ ثمّ تقدم سلسلة من النصائح لنيكوسكازانتزاكيس، أو لهنري ميللر الذي قال: “إنّ أول خطأ ارتكبته في حياتي هو أني ولدت في الولايات المتحدة الأمريكية”، ولم يقل في قبيلة بدائية. لو كان على قيد الحياة لقال لها أسوأ مما قالهلمواطنه أرنست هيمنجواي، رغم أنه حاصل على جائزة نوبل للآداب. لقد قال إني أقرأ مؤلفاته في دورة المياه، إلخ.
استسهال الكتابة والادلاء بتصريحات منفّرة لم يعد أمرا متعلقا بالفن، بل بالجانب النفسي لما يسمى بالكاتب، بحالات مرضية. لقد قرأت مرارا عن فكرة قتل الأب، أي تجاوز المرجعيات المؤسسة بحثا عن ممكنات سردية وشعرية جديدة، وهذا ضروري في حالة تمثل المنجز وتجاوزه ببدائل أرقى، وليس برفع المفعول به، أو بكتابة خواطر وعظية، أو بتركيب أبيات تسمى قصائد تجريبية رغما عنها. لقد عاش هيمنجواي في باريس ملازما للأديب فرانسيس سكوت فيتزجيرالد ورفيقته زيلدا، وتعلم منه كثيرا من التقنيات، ثم ابتكر طريقته في الحكي، لكنه لم يتحدث عن قتل الأب، بل بقي مدينا له ولتعاليمه، كما لا يحدث في البلدان التي تعيش أزمة أخلاقية حادة.
كيف يمكن لكائن بشري أن يصبح روائيا دون أن يقرأ رواية واحدة في حياته؟ أربكني هذا التصريح الذي يعدّ حالة مرضية متقدمة. الرواية موهبة وحرفةوأشكال وتقنيات وشخصيات ومستويات لغوية وتعبيرية وأبنية وحبكة وعقدة وسرود وحوار ومناجاة ورؤية ونسيج، ومجموعة من الجزئيات التي وجب معرفتها بإتقان. هناك روائيون جزائريون قرأوا كلّ روايات العالم، وكتبوا نصوصا رائعة، فكيف لم نتعلم من هذه التجارب ونأتي إلى الكتابة مهرولين وأميين، دون أسس معرفية ولغوية، ثم ندلي بتصريحات استعلائية في ظل انسحاب النقد الذي سمح لهؤلاء بجعل السفاسف مكسبا؟
أتذكر أني كنت في بيت الشاعر السوداني الدكتور عبد الرحمن جيلي رفقة الأستاذ والاعلامي عبد العزيز بوباكير، وكانت أمامه رسالة ماجستير لطالبة من جامعة الجزائر.كتب لهاملاحظة واحدة: ارفعي الفاعل يا عديمة المستقبل، ثم ألقى بالمذكرة جانبا، ولم يكمل بقيةالملاحظات.كانت الرسالة خطأ كبيرا، وهي تشبه بعض الأشياء التي تسمى روايات وقصصا في أيامنا هذه.



أعلى