محمد خضير - هل ينبغي لنا اعطاء كلّ شيء؟: (بمناسبة جائزة نوبل)

يقول الكاتب النمساوي بيتر هندكه (نوبل ٢٠١٩) في أحد حواراته (المجموعة في كتاب من ترجمة إسكندر حبش، دار خطوط وظلال، ٢٠٢١): "ما أن نبدأ الكتابة حتى نجد أنها تريد شيئاً آخر؛ لا ترغب الكتابة في أن نعطي كلّ شيء".
ومقابل غوته الذي كان يمتلك "غريزة ألا يقدّم كلّ شيء" فإنّ كتّاباً ألماناً مثل كلايست وشيلر وغونتر غراس وتوماس مان، كانوا غير قادرين على ضبط هذه الغريزة الوجودية المدمرة: أن تُعطي كلَّ شيء للآخرين. إنهم عباقرة، لكنّهم لم يصمدوا طويلاً. غونتر غراس كان عبقرياً، ولكن لمدة ثلاث سنوات فقط في حياته، فيما ظلّ يقلّد هذه العبقرية فيما تبقّى له من العمر: "هذا أمر أتعس من الدادائية، تقليد عبقريتك خلال ثلاثين سنة" يقول هندكه لمحاوره. إنّ من يُعطي كلّ شيء لن يُعمَّر طويلاً، مثل آرتو وكلايست وستيفان زفايغ، بل قد ينتهي الى الانتحار أو الجنون أو المرض. الكتابة تعمل ضد هذه الغريزة؛ عملُها يشبه الاسترخاء، روحاً وجسداً، بشكل كامل في السرير، يقول هندكه.
تنطبق هذه القاعدة على أغلب فائزي جائزة نوبل، والمرشحين الجدد لها_ وأبرزهم ميلان كونديرا_ لم يعطوا كلّ شيء، ينسحبون نحو أنفسهم المشتّتة، تختلف حولهم الآراء، بعد أن كانوا نصف مغمورين في ظلال شهرتهم العبقرية (دوريس لسنغ مثلاً التي تنكرت لماركسيتها القديمة، بل هويتها النسوية، وقد دُهِشت لمنحها نوبل). أغلبهم بلا وطن، منشقّون، يثيرون الزوابع والسَّخط أينما حلّوا. (بيتر هندكه نفسه: نمساويّ_ سلوفينيّ، ناصر الصِّرب في حرب البلقان وكتب عن انحياز العدالة لمسلمي البوسنة ضد قومه، تجوّل في أوربا واستقرّ في ضاحية بباريس أخيراً). هذا العنصر المركب من الهويات والأهواء، يكتب أنواعاً أدبية كثيرة (روايات، تقارير، رحلات) لكنّه يفضّل أن يتّبع غوته الذي عرف كيف يتراجع، ولا يُعطي كل شيء.
ما الذي يعنيه "لا يُعطي كلّ شيء" هنا؟ ماذا يطلب هندكه من الكتابة كي لا تقول كلّ شيء؟ ماذا يتبقّى منها إذن؟
بالإضافة إلى غموض التعبير، فقد يحيل القصد لأن يكون الكاتب طفلاً، لا يتطوّر، ولا يُغمض عينيه عن "البديهيات". ويستعير هندكه جملة غوته التالية لتوضيح فكرته عن "اللاشيء" أو الجزء من "شمولية كل شيء": "الرعشة_ التي_ هي أفضل جزء في الإنسان". وفي حوارات الكتاب الأخرى يعادل هندكه هذا الإحساس الغامض بالإيقاع؛ فالكتابة، عكس الكلام، نظام من الإيقاعات المتوالية، كالضوء والريح والمسافة بين شجرتين.
ألتفتُ، الآن، إلى أدباء "اللاشيء" من كتّاب العرب، فلا أجِدُ أقرب إلى "رعشة" هندكه المستوفاة من غوته، غير عددٍ قليل من أصحاب الكِتاب الواحد، أولئك الذين أحسُّوا برهبة الكلمات، رهبتَهم من الصمت والايقاع الخفيّ لأقدام الحياة؛ وربما كان بعضهم في العراق من فئة قليلة جداً: يحيى جواد ونزار عباس وعبد الملك نوري... ولا امرأة من طراز دوريس لسنغ وفرجينيا وولف..
أعلى