نزار حسين راشد - المُتحرّش.. قصة قصيرة

في سوق الخضار الضيق في ذلك الزمن، وكانت النساء ترتدي اللباس القصير جرياً وراء الموضة، ولم يكنّ يتعرّضن للتحرش برغم ذلك، بل كان شبان تلك الأيام يكتفون بالتلذذ بالنظر إلى تلك السيقان الجميلة العارية التي ترفرف فوقها أعلام التنانير القصيرة.
ولكن ما حدث في سوق الخضارقلب الأمور كلياً ودعا الجميع إلى إطلاق النفير العام خشية أن تتعرض بناتهم لما تعرضت له هذه المرأة، وجزء من هذه الحملة اللاحقة والجدل الذي دار حولها بعد وقوعها، لا بل الجزء الاكبر من هذا الجدل ألقى اللوم على المرأة ذاتها ولباسها غير المحتشم وليس على مرتكب الفعلة بالرغم من أنهم لم يبرؤوه ونعتوه بالحيوان ولكنهم ضمنيّاً التمسوا له بعض العذر.
والحادثة كما شهدتها وشاركت مع الموجودين في وضع نهايتها تتلخص بالتالي:
امرأة بلباسها القصير الشائع والمعتاد في تلك الأيام، تمارس روتينها اليومي في التسوق،تدلف إلى سوق الخضار الضيق وتنحني لتنتقي بعض الخضار من بسطة أرضية ، وربما اضطرت للانحناء أكثر من اللازم بسبب انخفاض البسطة، وربما كان الأولى أن تقرفص شادةً أطراف تنورتها الأمامية وضامة ساقيها كما تفعل معظم النساء عادة ولكنها لم تفعل من قبيل قلّة الحيطة والحذر وربما لغلبة الشعور بالأمان على حاسة التوجس الذي يقتضيه الحال.
على أية حال هذا ما حدث فانكشف منها ما انكشف، مع تصادف وجود حمّال خلفها قرفص كعادة الحمالين ليلتقط حملاً من على الرصيف، ولربما رأى أكثر مما يطيق رؤيته، فترك الحمل ونهض مستثاراً بما رآه ليحتضنها من الخلف ويحكم ذراعيه حولها،فأطلقت صرخة تنبّه لها الجميع وواصلت الصراخ قبل أن تنهك مستسلمة تحت ضغط جسد الحمّال ببنيته المتينة وعرقه المتصبب في الوقت الذي سارعنا فيه بالهجوم على الحمال لإنقاذ السيدة وبدأ أغلبنا بشده إلى الخلف وكنت أنا ممن قبضوا على رسغه وشدّه إلى الخلف لفك ذراعيه عن جسد المرأة،واخيراً نجحنا واستسلم الحمّال والذي بدا أنه قضى شهوته الأمر الذي أوهن قوته ومكنّنا من التغلب عليه في النهاية.
وتطوّع أحدنا لتهريب المرأة إلى خارج المشهد لتجنيبها الفضيحة وذلك من باب الشهامة الخُلُق السائد في ذلك الوقت،وذلك قبل وصول الشرطة،والذين أمرونا جميعاً بالتوجه للمخفر لتقديم الشهادة أما الحمّال فقد قيدوا يديه وساقوه أمامهم ولكن دون أن يعتدوا عليه بالضرب خلافاً لما درج عليه رجال الشرطة عادة،إذ يبدو أن الحدث صدمهم لدرجة تعطيلهم عن إجراءهم المعتاد.
في المركز الأمني وحيث أنه لا وجود للمرأة المشتكية فلا تكتمل أركان القضية ولا يمكنهم تسجيل الواقعة في محضر إثبات بناء على شهاداتنا فقط،ولا حتى باعتراف الحمّال نفسه والذي وقف كالصنم وبدا مذهولاً شارداً ولم يجب على أي من الأسئلة التي وجهها إليه رجال الشرطة،مما حدا بهم إلى الإعتقاد أنه معتوه أو أبله الفكرة التي رسّخها مظهره الأشعث المهلهل وقسماته المتحجرة،وفي النهاية أخلوا سبيله وصرفونا جميعاً وانتهى المشهد وأغلقت الحادثة،ولكنها ظلت عالقة بذاكرتي وأغرتني بحكايتها في غمرة الحديث الساخن الدائر حول قضايا التحرش الذي أصبح موضوع الساعة في هذه الأيام.
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى