أحمد محمد حميدة - سكون المغترب

أحمد محمد حميدة

موقنا كنت من موت سعيد بكر‏,‏ وقفت علي فوهة قبره‏,‏ وقلبي يصرخ صاحبي سنلتقي بعد حين رأيت النبل والمروءة يواريهما التراب

لكن يوم أمس رأيته يتجسد أمامي, يشع بذاكرتي, منبعثا, حين تحدثت إلي عبر الهاتف ابنته الصغيرة ايمان. كان الشوق يرفرف بصوتها الذي بلغ صفو الشباب الحميم.. سألتني عن سبب انقطاعي عن زيارة بيتهم كعهدي بزمن وجود سعيد.. قلت لها, إن سعيد حي, واقف أمامي, أراه بكيانه القوي, وبدماثة خلقه, يسألني عن أحوالي, أخر كتاباتي, قراءاتي, مكابدات الغربة..
من صوتها المنساب عبر الهاتف غمرني حرج, كأنما كانت تنتظر ذهابي إليهم مصحوبا بسعيد.. أنا الذي لم أزرهم في العجمي منذ وفاته, لتأكدي لو ذهبت وحدي, من استعادته أمامهم, متجسدا في شخصي, وربما يطرحون علي ملاءات المناحة بسيل الدموع.
لو دخلت بيتهم دونه, سأراه أنا منطرحا علي أريكته بوسط الصالة, بعيدا عن غرفة مكتبه يتألم أو يبكي حظ بدنه المفقود نصفه, بالموت الرديء الزاحف بتؤدة نحو النصف الآخر.
لكنه سيتحامل مرة بعد مرة بجسارة رجل سليم عفي يتحرك لدخول دورة المياه وحده دون معين يحمل عنه عبء نصفه المشلول.. سأراه يتناول طعامه بيد واحدة, تاركا نصف بدنه متهدلا وساكنا بجواره, ذلك النصف الثقيل الأخرس الذي ينظر إليه بشجن أسيان, محاولا نسيانه, تجاهله بالضحك, يضحك بنصف وجه, يتكلم بنصف فم, قانعا بتحوله لنصف إنسان يعشق الحياة, كما لو أن نصفه الميت, قبل موته, ضخ حياته وقوي فنه وموهبته الجسورة, فصار يحلم في صحوه بضرورة اكتمال مشروعه الأدبي الرائع..
رأيته يقرأ ويكتب ليمحو عنه شريك بدنه الهامد, الخامد, محاولا الخروج من بوتقة غربته الملازمة لروحه حتي في أزمته امتلاكه لسائر جسمه, تلك الغربة التي تكتنف اي أديب أو فنان يطمح لمزيد من التألق.. كان الاغتراب يسرقه من بين أقرب الأحبة إليه, ويحتويه, كما احتواه بأيام شبابه اليافع لفقدان الأهل, وانتقاله المتقلب بين الأقارب بحي سيدي جابر وشارع عبدالكريم طالبا اللجوء كطالب بكلية الفنون الجميلة, يبغضون لجوء شاب بكتب أدبية غريبة عنهم..
غربة توحشت, تفاقمت وضربت حصارها حوله, تغذي عليها حتي حملته وهاجرت به لبلاد النفط البعيدة, علي أجنحة الاعارات والأمنيات لتدبير احتياجات الأسرة, تحقيق أحلام مؤجلة, الاستقلال من مسكن مشترك مع أبناء عم يكرهون الهواء لو داعب وجوههم, اغتراب في بلاد الغربة والفيافي النائية..
غريبا كان لحد اندماجي في اغترابه..
والمثير للدهشة محاولة إعادة بناء أعمدة صموده لتحمل مرضه العضال, كأن موت نصفه الذي تحتم عليه احتماله بقية عمره بث فيه قوي الماء والهواء والنار ليكون آدميا آخر أكثر عشقا للحياة..
صوت إيمان نبش في ذاكرتي, أعادني:
ـ عمو.. عمو.. ماما تريد التحدث إليك..
أم حسام, زوجة سعيد الموقرة, انتقل إلي صوتها المعاتب بحزن شفيف:
ـ كيف حال أولادك.. أهكذا العشرة؟ أنا أكلمك من فوق كرسي متحرك.. قطعوا ساقي من مرض السكر يا حميدة.. لكن الحمد لله.. مازلت عائشة.. المفروض تجيء لزيارتنا, أنت من رائحة الحبايب يا.. خويا..
تقول وأنا في البيت, أشعر بسعيد يتكيء علي كتفي, يثاقل بجسده مثلما كان يفعل أثناء عبورنا أنهار الشوارع عائدين من الندوات ورفقة الأصحاب, نضحك, ويتثاقل لما يكون الضغط مرتفعا بدماغه.. كان عياله في البيت قد اعتادوا علي قعودي إلي جانبه علي الأريكة مسترخيا بين اجتماعهم اليومي حوله, لم ينطبق فمي, مثلما فعلمنا, منذ أعوام, بأول رحلة سفر إلي القاهرة بسيارته برفقة الصغار أحمد ومصطفي وإيمان الفرحين بالنزهة, نقتل الوقت بالمزاح والنكات وارتجالي في تأليف أغان تضحكهم, ويطالبون بالمزيد.. علي الأريكة نضحك من وقت انسحاب الغروب علي النهار إلي الليل, كأني فرد منهم, ممتزج أكثر بسعيد, لا يعرف كلانا من خرج من صلب الآخر, أعرف هواجسه والمخبوء بصدره من الورق المكتوب بمداد من دمه, ويعرف خصائص حياتي..
استوحش الآن. بالمخيلة المضيئة, مشوار العجمي العجيب الذي ألفته لغاية المسرة والحبور.. سأركب عربة, مشروع من ميدان, سألتقي بنصفي الآخر, عائلتي الأكثر ودا, وفيما تلتهم عجلات العربة أسفلت شارع المكس, أشاهد شواطيء بحر الدخيلة, وباعة الأسماك فوق الأرصفة, أوناش الميناء وسفن عرض لبحر, وبيوت الصيادين علي كوبري الطلمبات, مداخن شركات البترول, والأسمنت والكيماويات, مغتبطا بتغيير مرئاتي اليومية المألوفة المضجرة, منخلعا من معقل الكتابة والقراءة والغوص في مشكلات أخري تاركا رأسي لهواة البحر, ذاهبا لسعيد.. بعد حين ستتوقف عربة المشروع, بجوار مدرسة العجمي النموذجية.. سأنعطف علي أول زقاق بآخر ممر ضيق بعدة شارع, علي ناصيته منزل سعيد, سأصعد الدور الثالث وأندمج بالأسرة.. أدخل الزقاق متوقعا رؤية سعيد.. سآراه قادما من عند الممر, مع الغروب, كعادته مستندا علي كتفي أحمد ومصطفي, يحاولان إدخاله سيارته بغرض التوجه لعيادة العلاج الطبيعي الكائنة علي الشارع بمواجهة الزقاق, لأصر أنا علي ترك السيارة واجتياز المسافة علي الأقدام.. يضحك, يتأبط ذراعي.. المشي أفضل:
ـ أنا جئت لكم راكبا الجزمة يا سعيد..
ـ دفعت كم أجرة الجزمة يا حميدة؟؟
يضحكون, وأنا أضحك لفهم العيال للتورية الكلامية.. ربما يضحكون علي ما تذكروه من نكات قديمة, وربما لهزلي المتوقع دائما..
يستجيب سعيد للذهاب للعيادة سيرا, ملقيا ثقله علي كتفي, بينما يهمس( درش) لي:
ـ قل أخر نكتة. فأقول له:
ـ أخر نكتة هي ان أباك سيكسر كتفي.. أبوك ازداد بدانة, ماذا يأكل فوق, تزغطونة كالبط؟! حتي أثناء مزاولة الطبيب لعلاجه الطبيعي, يضحكون..
ونعود علي مهل, نتساند, نصعد الدرج بهزل يشع في الطوابق, يغمر الشقة تعد أم حسام بقوتها المتحركة علي قدمين, طعام العشاء والشاي, وأنهض, يودعني الصغار علي الدرج, وبوعد العودة ليوم آخر.. في ذلك اليوم الأخر واريناه التراب.
لو ذهبت وحدي سيرونه يطل مني, يتجسد لهم من خلالي, ربما كنت أنا نصفه الذي مات, عليهم أن يعتقدوا بذلك, أن يعرفوا أنني لن أحتمل بيت رأيت انيهار جداوه.. وها هو صوت أم حسام, قعيدة كرسي متحرك, يكل الانهيار, أقول لها أنني سآجيء ذات يوم, نعم, ساجيء ذات يوم, سيكون معي سعيد, لنعبر الشوارع سويا. نصعد البيت معا, نضحك فيما نصعد الدرج, وتسمعون ضحكاتنا المجلجلة..
التقط مصطفي سماعة الهاتف:
ـ عمو حميدة أنا دخلت الكلية, وأحمد اشتغل, وإيمان في الثانوية العامة, ونريد رؤيتك.. إن لم ترد المجيء عندنا سنجيء نحن عندك لنري سعيد..
وضعت السماعة وقلت لسعيد ربما يأتون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى