محمد الرياني - فناجينَ القَهوة

يفوحُ الصباحُ بريحِ قهوتها، تنسابُ روعتُها فتصحو نساءُ الحيِّ على شذى الرائحة، تمتدُّ الظلالُ وكأنها تفرحُ بهذا الجمال، تبادرُ الجاراتُ فيسألنْها عن سرِّ قهوتها، عن الخلطةِ العجيبة، وعن قشرِ البنِّ والزنجبيل، لاتكترث للسؤال، ترتفعُ على كرسيٍّ خشبيٍّ كي تنالَ الفناجينَ المعلقةَ في السلةَّ السمراء، تنزعُ واحدًا بل اثنين بل ثلاثة فناجين، لأنها في كل مرة تسمعُ وقعَ خطواتِ القادماتِ لحضورِ صباحِها الفاتن، تجعلُ الكراسيَّ في وضعٍ متقابل، تفوحُ القهوةُ أكثر بعد أن صبَّتْ في الفناجين المشروبَ السحري ، ملأتْ لصغيرِها فنجانًا مختلفًا من الفخار ، سبقَهنَّ في احتسائه، أراد أن يزيد واحدًا ، قالت له إحداهن وهي تضحك: القهوةُ للعجائز ، انخفض الظلُّ وزالَ نصفُه بعد حديثِ الطيبات ، غادرتِ الجاراتُ المكانَ ورحلَ الظلُّ والصباحُ بعدما تعطرَتْ زوايا البيتِ الصغير، غافلَها واتجه يسلبُ من قاعِ الدلَّةِ العتيقةِ الرواسبَ المتجمعة ، غابتِ القهوةُ المعتقةُ عن الصباحِ وعن الظلِّ البارد ، نظرَ بعد الغيابِ إلى الفناجينِ المعلقةِ وهي في مكانها ، تذكَّرَ أسماءَ العجائزِ الطيباتِ اللاتي غادرنَ الصباحَ الذي يتنفسُ القهوة ، حدث إعصارٌ مفاجئ وقتَ الظلال ، سقطتِ السلَّةُ بالفناجينِ فتكسرتْ من هولِ الرياحِ العاتية ، فنجانٌ واحدٌ سلمَ من الحادثة ، ما أروعَه من فنجان! كان به بقايا قهوةٍ من الزمنِ الغابرِ قد تحللتْ مثلَ جسدٍ رميم ، تنهَّدَ على ريحِ أمِّه وجاراتِها ، في صباحٍ جديدٍ آخرَ حملَ الفنجانَ ليستعيدَ من قاعِه الصغيرِ رشفاتِ الذكرياتِ فلم يجد غيرَ الحزنِ والشجن ، زفرَ زفرةً حزينة، تمتمَ وهو يشمُّ فمَ الفنجان : لقدرحلَ ريحُكَ مع الأنفاسِ التي صبَّتْ فيكَ يوما .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى