نجيب محفوظ - دعاء.. من أصداء السيرة الذاتية

دعوت للثورة وأنا دون السابعة .

ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة. وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير :

بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا.

غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد‍.

رثاء

كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتي.. كان الموت ما زال جديدا، لا عهد لي به عابر في الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعوري الحقيقي فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض. هكذا انتزعني النحيب من طمأنينتي، فأدركت أنه تسلل في غفلة منا إلى تلك الحجرة التي حكت لي أجمل الحكايات.

ورأيتني صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه في جميع الحجرات، فكل شخص تذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم.

وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء. وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء وهمست بحنان : لا تبق وحدك.

واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون. وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.

دين قديم

في صباي مرضت مرضاً لازمني بضعة أشهر. تغير الجو من حولي بصورة مذهلة وتغيرت المعاملة ولت دنيا الإرهاب، وتلقتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني وأبي يمر عليّ في الذهاب والإياب. وأخوتي يقبلون بالهدايا لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات.

ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم. عند ذاك خلق بين جوانحي شخص جديد، صممت على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة، إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء ، وجعلت أثب من نجاح إلى نجاح، وأصبح الجميع أصدقائي وأحبائي. هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي.

الحركة القادمة

قال برجاء حار :

جئتك لأنك ملاذي الأول والأخير.

فقال العجوز باسما:

هذا يعني أنك تحمل رجاء جديدا.

تقرر نقلي من المحافظة في الحركة القادمة .

ألم تقض مدتك القانونية بها ؟ هذه هي تقاليد وظيفتك فقال بضراعة :

النقل الآن ضار بي وبأسرتي.

أخبرتك بطبيعة عملك منذ أول يوم .

الحق إن المحافظة أصبحت وطنا لنا ولا غنى عنه.

هذا قول زملائك السابقين واللاحقين، وأنت تعلم أن ميعاد النقل لا يتقدم ولا يتأخر.

فقال بحسرة :

يا لها من تجربة قاسية !

لم لم تهيئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه.

نجيب بيشيش

مفترق الطرق


عرفت في بيتنا بأم البيه – حتى اليوم لم أعرف اسمها الحقيقي فهي عمتى أم البيه. تجلس في حجرتها فوق الكنبة متحجبة مسبحة، كلما طمعت في مصروف إضافي تسللت إلى مجلسها. وعلى فترات متباعدة تقف سيارة أمام بيتنا الصغير فيغادرها البيه، قصيرا وقورا مهيبا ، يلثم يد أمه ويتلقى دعاءها.

زيارة تنفخ في البيت روحا من السرور والزهور، وقد تحمل إلي علبة من الحلوى، رجل آخر يتردد على أم البيه كل يوم جمعة. صورة طبق الأصل من البيه غير أنه يرتدي عادة جلبابا ومركوبا وطاقية وتلوح في وجهه أمارات المسكنة. وتستقبله عمتي بترحاب وتجلسه إلى جانبها في أعز مكان.

حيرني أمره.

وحذرتني أمي من اللعب في الحجرة في أثناء وجوده.

ولكنها لم تجد بدا في النهاية من أن تهمس لي:

إنه ابن عمتك ‍!

تساءلت في ذهول : أخو البيه؟

أجابت بوضوح :

نعم .. واحترمه كما تحترم البيه نفسه؟

وأصبح يثير حب استطلاعي أكثر من البيه نفسه.

الأيام الحلوة

كنا أبناء شارع واحد تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة وكان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه، ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال، وكان فظا غليظا شرسا مستعدا للعراك لأتفه الأسباب . لا يفوت يوم بسلام ودون معركة، ولم يسلم من ضرباته أحد منا حتى بات شبح الكرب والعناء في حياتنا. فلا تسأل عن فرحتنا الكبرى حين علمنا بأن أسرته قررت مغادرة الحي كله، شعرنا حقيقة بأننا نبدأ حياة جديدة من المودة والصفاء والسلام. ولم تغب عنا أخباره تماما. فقد احترف الرياضة وتفوق فيها وأحرز بطولات عديدة حتى اضطر إلى الاعتزال لمرض قلبه، فكدنا ننساه في غمار الشيخوخة والبعد.

وكنت جالسا بمقهى الحسين عندما فوجئت به مقبلا يحمل عمره الطويل وعجزه البادي .

ورآني فعرفني فابتسم، وجلس دون دعوة . وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التي فرقت بيننا . ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب. ثم تنهد وسأل في حنان :

هل تذكر أيامنا الحلوة؟

النسيان

من هذا العجوز الذي يغادر بيته كل صباح ليمارس رياضة المشي ما استطاع إليها سبيلا؟

إنه الشيخ مدرس اللغة العربية الذي أحيل على المعاش منذ أكثر من عشرين عاما.

كلما أدركه التعب جلس على الطوار أو السور الحجري لحديقة أي بيت، مرتكزا على عصاه مجففا عرقه بطرف جلبابه الفضفاض .

الحي يعرفه والناس يحبونه ، ولكن نادرا ما يحييه أحد لضعف ذاكرته وحواسه.

أما هو فقد نسي الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو.

المطرب

قلبي مع الشاب الجميل. وقف وسط الحارة وراح يغني بصوت عذب :

الحلوة جاية

وسرعان ما لاحت أشباح النساء وراء خصاص النوافذ.

وقدحت أعين الرجال شررا.

ومضى الشاب هانئا تتبعه نداءات الحب والموت.

قبيل الفجر

تتربعان فوق كنبة واحدة . تسمران في مودة وصفاء ، الأرملة في السبعين وحماتها في الخامسة والثمانين . نسيتا عهدا طويلا شحن بالغيرة والحقد والكراهية ، والراحل استطاع أن يحكم بين الناس بالعدل، ولكنه عجز عن إقامة العدل بين أمه وزوجه ولا استطاع أن يتنحى ، وذهب الرجل فاشتركت المرأتان لأول مرة في شيء واحد وهو الحزن العميق عليه. وهدهدت الشيخوخة من الجموح، وفتحت النوافذ لنسمات الحكمة. الحماة الآن تدعو للأرملة وذريتها من أعماق قلبها بالصحة وطول العمر، والأرملة تسأل الله أن يطيل عمر الأخرى حتى لا تتركها للوحدة والوحشة .

السعادة

رجعت إلى الشارع القديم بعد انقطاع طويل لتشييع جنازة.

لم يبن من صورته الذهبية أي أثر يذكر.

على جانبيه قامت عمارات شاهقة في موضع الفيلات، واكتظ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة.

تذكرت بكل إكبار طلعته البهية وروائح الياسمين.

وتذكرت الجميلة تلوح في النافذة باعثة بشعاعها على السائرين.

ترى أين يقع قبرها السعيد في مدينة الراحلين؟

ويوافيني الآن قول الصديق الحكيم : ” ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين”.

الطرب

اعترض طريقي باسما وهو يمد يده . تصافحنا وأنا أسأل نفسي عمن يكون ذلك العجوز. وانتحى بي جانبا فوق طوار الطريق وقال :

نسيتني؟!

فقلت في استحياء.

معذرة ، إنها ذاكرة عجوز!

كنا جيران على عهد الدراسة الإبتدائية وكنت في أوقات الفراغ أغني لكم بصوت جميل، وكنت أنت تحب التواشيح..

ولما يئس مني تمام مد يده مرة أخرى قائلا :

لا يصح أن أعطلك أكثر من ذلك قلت لنفسي : يا له من نسيان كالعدم، بل هو العدم نفسه، ولكني كنت وما زلت أحب سماع التواشيح.

رسالة

وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي.

ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.

وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس.

وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.

وتذكرت قول الصديق الحكيم . ” قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان”.
أعلى