نجيب محفوظ - السفينة البيضاء.. (أول قصة نشرها نجيب محفوظ)

أبحر الملك هنري الأول إلي نرمنديا برفقة ابنه البرنس وليم لينادي به ملكا عليها وليعقد زواجه علي ابنة الكونت أنجو ولما تم له ما أراد تأهب هو وأتباعه للإياب إلي الوطن, وبينما هو علي وشك السفر إذ مثل بين يديه ربان نرمندي يدعي فنرستيفن وقال له مولاي, كان والدي من جند أبيك الأمناء وقد قضي نحبه بصحبته علي سفينة لي شرف قيادتها الآن. وكل ما أتمناه أن تلحقني بخدمتكم لأبذل لكم ما بذل أبي لأبيكم فأجاب الملك كأنك تطلب الانفصال عن الأسطول النرمندي عندما صار ابني ملكا علي نرمنديا؟ فقال الربان سأظل مكاني وسأكون له مخلصا حتي الممات, ولكن لي رجاء واحد وهو أن يبحر مولاي علي( سفينتي البيضاء) كما أبحر أبوه منذ أعوام عليها في غزوته لانجلترا فقال الملك: يحزنني أن أخيب رجاءك هذا أيضا لأني أمرت بإعداد سفينة وهي علي تماما الأهبة في الميناء ولما كان ابني وزوجته سيرافقانني عليها فإني سأطلب منهما أن يتخلفا ويبحرا علي سفينتك.

ولم تمض ساعة حتي كانت سفينة الملك في طريقها إلي الشواطئ الإنجليزية وعندما اقتربت من الشاطئ وكان الوقت مساء سمع بحارتها صوتا مزعجا آتيا من جهة البحر تلاه صراخ ثم سكون ولم يعرف أحد سر ذلك.

بعد أن اختفت سفينة الملك عن الشواطئ النرمندية أبحرت السفينة البيضاء وكان ركابها ينيفون علي المائة بين نبيل ونبيلة هذا عدا البحارة والتجار, ولما وجد البرنس وليم نفسه بعيدا عن عيون أبيه عول علي انتهاز الفرصة فشرب مع الشاربين ورقص مع الراقصين وعندما خيم الليل وكانوا قد قاربوا الشواطئ الإنجليزية أخذوا يتأهبون للنزول, وبينما هم في استعدادهم إذ شعروا برجة عنيفة زلزلت السفينة زلزالا وتلا ذلك صراخ مزعج وهذا الذي سمعه بحارة سفينة الملك هنري, وكانت السفينة قد اصطدمت بصخرة هائلة شقت مقدمتها.

ذعر فتز وأسرع نحو الأمير ودفعه بين يديه وقفز به إلي أحد القوارب وطفق يجدف لئلا يمانع الأمير ويحاول إنقاذ زوجته, وفي أثناء ابتعادهما وصل لأذنيهما صوت زوجته وهي تستغيث فاشتعل قلب الأمير غضبا وفزعا وصاح بالربان عد ثانيا, سأنقذها مهما شق الأمر, ولم ير الربان بدا من الرجوع, وما اقترب القارب من السفينة حتي صعد الأمير علي ظهرها وغاص في لجج الماء وظهر ثانيا وزوجته بين يديه, وحدث أن تزاحم الناس علي القارب الذي يحرسه( فتز) للأمير فاختفي, وضاعت صرخة الربان اليائسة مع صرخات الفزع لما ابتلع البحر السفينة البيضاء.

نجا رجلان من هذا الجمع الغفير أولهما نبيل يدعي جودفري والثاني تاجر خمر من( بردو) وقد لحق بهما ثالث هو فتز ولما لم يجد الأمير في قاربهما صرخ بيأس ورمي بنفسه بين الأمواج.

استمر النبيل والتاجر في التجديف حتي أعياهما التعب فقال النبيل: الوداع أيها الرجل, سر يرافقك الله, أما أنا فإني إن نجوت من البحر فلن أنجو من الملك, وألقي بنفسه في اليم وترك الرجل في ذعر عظيم وفي الصباح رآه بعض البحارة فأنقذوه وهو في الرمق الأخير, مضت ثلاثة أيام ولا يجرؤ أحد علي إنباء الملك بالخبر, وأخيرا بعثوا إليه بغلام أخبره وهو يبكي ـ بغرق السفينة البيضاء.
فسقط الملك علي الأرض ممتقع اللون, ولم ير بعد ذلك اليوم مبتسما.


نجيب محفوظ
رابعة أدبي ـ مدرسة فؤاد الأول الثانوية 1929




00.jpg
أعلى