محمد خضير - على باب مخبز.. (سكيتش قصصي)

أقِفُ على باب المَخبز، وأنسى فُرنَ بيتي مُطفأً كجمرةٍ في موقد الدَّرويش، سائلِ ليلةِ الجمعة.
أنسى أنّي وقفتُ طويلاً بلا أملٍ في الرجوع للبيت برغيفٍ ساخن أو "شنكة" عجينٍ مختمِر.
المخبزُ قريب إلا أنّ الذكرى بعيدة. كنت صغيراً، نحيلاً كعصا الراعي؛ ورغيف الخبز أسمرُ كالوجوه حولي. أذكرُ أنّ الرّاعي مات برداً وشياهُه هامَت في الوادي (قرأتُ ذلك في كتابٍ مصوَّر، بلا غلاف).
كم لبِثتُ في مكاني لم أبرحه، بباب المَخبز، حتى أنتهي من قراءة كتاب الرّاعي الميّت برداً؟ كنت طالباً في الخامس الثانوي على الأرجح، والوجوهُ حولي غائمةٌ كالشِّياه الضائعة في الوادي (مصوَّرة بريشة رسّام الكتاب). كم كان التنُّور (التنّور الحقيقيّ) جائعاً كبطن سائلِ ليلةِ الجمعة الأعمى، يتقرّى البيوتَ المغلقة، والنساءَ النائمات، والجِراء المبقَّعة، عائداً إلى كوخه بجمرةٍ خابية (لم تُرسَم صورةٌ واضحة لسائل الليل).
وقتذاك، صبيحةَ يوم من يناير ١٩٥٩، انطفأ التنُّور، وضيَّعتُ وجهَ الطالب النحيل، الذي ما برِحَ واقفاً في مكانه ببابِ المخبز. كم كان الشارع طويلاً، تقطعه سيّارةُ السّجن كحلمٍ في رأس شحّاذ ليلة الجمعة الأعمى (لستُ أنا السَّجينَ، لكن وجوه الخبّازين أمام التنانير الملتهِبة بدَتْ كلّها لمساجين في قصةٍ قرأتها لمكسيم غوركي).
يا للعجب! أيقِفُ الصبيُّ أم السَّجينُ المنقول في سيّارة السجن، بباب المخبز؟ ما عُمْرُ ذلك السَّجين، الراعي، الدرويش_ سائل الجمعة؛ أما زالوا واقفين كلَّهم بباب المخبز؟ أقرَأَ أحدُهم مثلي قصّةَ غوركي، الذي اختلطت صورتُه بصورة الرّاعي الباحث في الوادي عن الشِّياه الضائعة؟ أهيَ القصةُ التي تتجاوز الصبيَّ، وتذهب لتختبئ في كتابٍ بلا غلاف؟
كيف لي أن أتعرّف مدّةَ هذه الوقفة الطويلة، وما موقعي الحقيقي بين أولئك الرجال السُّمر، بباب المخبز، أو في سيّارة السجن؟ هل كانت سيارةً خضراء بنوافذ صغيرة، أم هي عربة خضراء في قطار الناصرية_ أور؟ (وفي حالة التغيير هذه، فستأتي إلى موقفنا أمام المخبز شخصيةُ أل T.T_ فاحص تذاكر القطار).
يا لها من ذكرى شاحبة، لطالبٍ ثانوي، مبتورة من كتابٍ بلا غلاف! ويا لها من شخصيات أحاول إحصاء عددِها (وكم منها دخلت القصة صبيحة يناير_ ذلك البعيد_ وكم تنتظر: مثل مؤذِّن الجامع وساعي البريد ومفتِّش الإعاشة_ وقد حان دوره في زيارة المخبز وتدقيق وزن الشِّنكات بميزان المخبز_ إضافة إلى بضعة كلابٍ نائمة لصق الجدار تلتمس الدفء؟).
أعلى