عبد الفتاح كيليطو - الناقد الأدبي كمتعدّد الحرف (bricoleur)...

"مسألة المنهجية فيما يخصّ الأدب ليس لي عنها تصوّر واضح وثابت. لذا سأقول، كما يقال عادة عند التواضع: إنّني أبحث عن نفسي. خذ رواية مثلا، تجد فيها عناص تاريخية، وعناصر نفسية وعناصر جغرافية، وعناصر اجتماعية في نفس الصفحة. فإذا بك تتحوّل وأنت تقرأ هذه الصفحة، إلى مؤرّخ وجغرافي ومحلّل نفسي أونفساني وعالم اجتماع... قد يقول البعض ما يجب أن نهتمّ به هو ما يُسمّى بأدبية النص، الصيغة الأدبية للنص، وكفى. لكن ماذا سنفعل بالباقي؟ هذا بالإضافة إلى أنّ الدراسات التي أنجزت لحدّ الآن حول أدبية النص هي، في اعتقادي، دراسات هزيلة. هل نقول: نترك كلّ عنصر من العناصر التي أشرت إليها للمختص؟ مثلا عالم الاجتماع نترك له دراسة المحتوى الاجتماعي للنص، وهكذا. لكن المسألة ليست بهذه البساطة . ذلك أنّ المختص نفسه يتحوّل عندما يدرس الأدب إلى متعدّد حرف (bricoleur). وهنا سأذكر بمقابلة قام بها كلود ليفي شتروس، في مجال غير مجال الأدب، بين المهندس ومتعدّد الحرف. المهندس يمتاز بتخصّصه وبامتلاكه لأدوات مناسبة لتخصّصه. امّا المتعدّد الحرف فلا تخصّص له، وبالتالي لا يملك الأدوات اللازمة لحرفه المتعدّدة فيلجأ إلى التقاط هذه الأداة أو تلك من ميادين مختلفة، ميادين بعيد عن العملية التي يقوم بها، ويسخّر الأداة المستعارة لأغراضه. مثلا تريد إصلاح جهاز راديو ولا يكون عندك مفك البراغي فماذا تفعل؟ تروح إلى المطبخ وتأخذ سكينا وتستعمل السكين مكان المفك. السكين لم يوضع أصلا لإصلاح جهاز الراديو ولكنّك تنقله من وظيفته الأصلية إلى وظيفة أخرى. يبدو لي، كما يبدو لآخرين، أنّ الناقد الأدبي، المحلّل للنصوص الأدبية يشبه إلى حدّ كبير المتعدّد الحرف. لذا ترى المشتغل بالأدب يستعير أدواته ويلتقطها من اللسانيات وعلم الاجتماع وعلم النفس إلخ.. يأخذ من هذه العلوم، رغم عدم تخصّصه فيها في غالب الأحيان، ما يناسب النصوص التي يدرسها والغرض الذي يرمي إليه من خلال دراسته. هذا فيما يبدو لي، حال كلّ مشتغل بالأدب. اليوم وبالأمس القريب والبعيد. الجرجاني يعتمد في "أسرار البلاغة" على العلوم التي كانت سائدة في عصره، يعتمد على الكيمياء عند تحليله للشعر. في كتابه كثير من العبارات والمصطلحات مستوردة كما يُقال من الكيميا.ء. لاأجهل أنّ هناك من يتكلّم عن علم الأدب ، لكن هذا العلم من باب التمنّي، لم نره بعد، فهو كالعنقاء، والعنقاء، كما يقول الشاعر، تأبى أن تُصاد." (1986)
(غالبا ما لا نلتفت للتعقيبات التي تُذيّل بها المداخلات الأصلية. هذا تعقيب للأستاذ عبد الفتاح كيليطو على هامش مداخلة له "مسألة القراءة" ضمن ندوة "المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية" من تنظيم جمعية البحث في الآداب والعلوم الإنسانية، انظر "المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال، 1986، ص38 ـ 39 )
أعلى