الناقد عبدالفتاح كيليطو في ملتقى بيت الزبير للشباب: لن أعيد قراءة المنفلوطي ولا سر في كليلة ودمنة.. وتعجبني عناوين إحسان عبدالقدوس.. تغطية:عاصم الشيدي

(لا أسعى لتأسيس منهج نقدي.. والمقامات تنتظر مترجمها الذي ينقذها من الإهمال)

تغطية - عاصم الشيدي -

قال الناقد العربي الكبير الدكتور عبدالفتاح كيليطو: إنه لا يعيد قراءة المنفلوطي الذي قرأه يوم كان طفلا حتى يحافظ على تقديره له ولا يصاب بخيبة أمل، مؤكدا أن المنفلوطي لم يكن يتقن اللغة الفرنسية وكان يترجم الروايات بما يسمعه عنها شفويا فقط وهو ما فاجأ الكثيرين في القاعة ممن كانوا يعتقدون أن المنفلوطي كان يترجم الروايات الفرنسية عن طريق إعادة كتابتها لتأخذ الكثير من روح اللغة العربية لا عبر سماع حكاية الرواية فقط، أما إحسان عبدالقدوس، الذي لا يريد أيضا العودة لقراءته، فهو ما زال معجبا بقدرته على سبك العناوين، وشهرزاد هي الشخصية التراثية التي سيختارها لشرب فنجان قهوة معها فيما لو أتيح له ذلك.

وقال كيليطو الذي كان يتحدث مساء أمس الأول في متحف بيت الزبير ضمن النسخة الثانية من «ملتقى بيت الزبير للشباب»: إن السر الوحيد في كتاب كليلة ودمنة هو أن ابن المقفع يريد أن يثير القارئ ويضمن انتشارا لكتابه مؤكدا أنْ لا ضرورة لتصديق المؤلفين الذين يقولون إن في كتبهم أسرارًا لا تظهر إلا بتكرار القراءة.

وقدم كيليطو شهادة حول «تجربة القراءة الأولى» قبل أن يأخذه الحضور إلى موضوعات عديدة حول أسئلة الراهن الثقافي ويناقشوه في أطروحاته وقراءاته لكتب التراث العربي القديم.

وقال كيليطو في ورقته «الأهم بالنسبة لي حدث حين أدركت أن باستطاعتي قراءة كتاب، وبالتالي قراءة كل الكتب المتاحة، إنه مكسب تحرزه وحدك، بدون أن يساعدك أحد، لا المعلم ولا الأم ولا الأب ولا الأخ الأكبر، في لحظة متميزة وغير متوقعة، تفتح كتابا وكأنك تلعب، فتجد نفسك تقرأه، تغدو قادرا على قراءته فتسترسل في تتبع صفحاته إلى النهاية».






واستطرد الباحث في سياق حديثه عن البدايات الأولى بالقول «بين النصوص التي درسناها في المدرسة قصة «الحلاق الثرثار» لمصطفى لطفي المنفلوطي، قصة هزلية شيّقة بثت السعادة فينا، ضحكنا جميعا ونحن نقرأها، ولا غرو أنها هي التي هدتني إلى كتب المنفلوطي وإلى الولع بها حتى أنني قرأتها بالكامل.

لم تكن في مدينة الرباط حينذاك مكتبات لبيع الكتب، ما عدا دكاكين بائسة تباع فيها دفاتر ذابلة وأدوات مدرسية شقية، أما الكتب الأدبية، وأغلبها من تأليف مصري، فكانت معروضة على الأرصفة، وبثمن بخس، لم يكن بد حينئذ من الانتباه إلى المنفلوطي كمؤلف، فاسمه بارز وصورته واضحة على الغلاف، قرأت كتبه دون معرفة أنها مترجمة عن الفرنسية، بل إن لم تخني الذاكرة، لم تكن أسماء المؤلفين الأصليين ترد فيها، ولم أكن أهتم بالأمر، كان ذلك خارج إدراكي تماما، علمت فيما بعد مصدر غادة الكاميليا، والشاعر (مسرحية في الأصل)، والفضيلة، لكنني إلى الآن لا أدري من هو مؤلف مسرحية «في سبيل التاج»، ورواية «مجدولين»، لا أحد يهتم بهما في فرنسا، والأغرب من ذلك أنني كنت أجهل أن المنفلوطي لم يكن يتقن الفرنسية، كان يترجم مؤلفات لم يقرأها، لا بلغتها الأولى ولا بأي لغة أخرى، لم يكن يعرف محتواها إلا شفويا».

ويسرد كيليطو شهادته بالقول «على الأرصفة كانت تباع مجلة أدبية مصرية صغيرة الحجم عنوانها كتابي، وكان صاحبها، حِلمي مُراد، يصدر أيضا سلسلة «مطبوعات كتابي»، تتضمن ترجمة أرقى الروايات العالمية، أنا مدين بالكثير لهذا الناشر، فبفضله قرأت مدام بوفاري وما لا يحصى من الروايات الأوروبية، ومن بينها رواية فنلندية هي الوحيدة التي اطلعت عليها في حياتي».

ويستعير كيليطو من أُمبرتو إيكو رده على سؤال حول اللغة التي تجمع الأوروبيين، حين أجاب بأنها «الترجمة» مشيرا إلى أن الترجمة هي اللغة التي تجمع قراء العالم بأسره، هذا الأمر دفعه لتأليف كتاب بعنوان «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية».

ويقول كيليطو في شهادته «من المعلوم أن الرغبة في القراءة تقود تلقائيا إلى الرغبة في الكتابة، هناك ما يتمنى المرء كتابته، يقوم بمحاولات، غير أن النتيجة تكون مختلفة في أغلب الأحيان، يسعى إلى كتابة رواية، النوع الذي يتهافت عليه الجميع منذ مدة، فإذا به ينجز شيئا آخر.

شخصيا (إن جاز لي التحدث عن تجربتي) كنت في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي أستاذا للأدب الفرنسي، وكنت أهتم شيئا ما باللسانيات لأنه كان يشاع وقتئذ أنها تمنحنا الطريقة المثلى لتحليل النصوص الأدبية. من لا يتقن اللسانيات لن يفلح أبدا في مساره الأدبي، كنت تعيسا أمام هذه الضرورة القاطعة، وكنت أصغي إلى اللسانيين يتحدثون بحماس وأنا بينهم كأنني مصاب بالتوحد، لا أفهم ما يقولون»، لكن كيليطو يقول: إنه وجد نفسه غير «مؤهل للخوض في التنظير اللساني والأدبي، مع أنني استفدت كثيرا من علمائه وأخصائييه.

ويضيف «أطروحتي عن المقامات، أطروحة هي بالأحرى، كما قيل لي، محاولة نقدية، وبالجملة، لست قادرا على تأليف كتاب بمقدمة وخاتمة وبينهما بحث مستفيض لموضوع ما في فصول متراصة البناء.

كان هذا يقلقني ولم أتجاوزه إلا يوم تبين لي أن ما كنت أعتبره عجزا يمكن أن أجعل منه الموضوع الرئيس لمؤلفاتي».

ويستطرد بالقول «ليست طريقتي في الكتابة من اختياري، ما هو شبه مؤكد أن ليس بمستطاعي أن أكتب بطريقة أخرى.

اتضح لي هذا وأنا أقرأ الجاحظ، فهو الذي خلصني من شعوري بالنقص يوم تبينت أنه، وهو أكبر كاتب عربي، لم يكن يستطيع أو لم يكن يرغب في إنجاز كتاب بمعنى استيفاء موضوع ما والمثابرة عليه والسير قدما دون الالتفات يمينا أو يسارا. هو نفسه يقر بهذا ويعتذر مرارا على، على ماذا؟ كدت أقول على تقصيره، وما هو بتقصير. يعلل الأمر بتخوفه من أن يمل القارئ، والواقع أنه هو أيضا كان يشعر بالملل ويسعى إلى التغلب عليه بالالتفات هنا وهناك، وهذا سر استطراداته المتتالية». مشيرا إلى أن الجاحظ أسس بصفة جلية فن الاستطراد، دشن فن الانتقال المفاجئ من موضوع إلى موضوع، من شعر إلى نثر، من موعظة إلى نادرة، من مَثَل إلى خطبة، من جد إلى هزل».

وأعقب شهادة كيليطو مجموعة من الأسئلة التي أخذت الحوار إلى فضاءات كثيرة. وردا على الدكتور محمد بن عبدالكريم الشحي الذي سأل عن السر في كتاب ابن مقفع كليلة ودمنة أن الإجابة عن مثل هذا السؤال يمكن أن تكون بنعم ويمكن أن تكون بلا.. وهذا يجعل القارئ في حيرة ماذا يفعل! ابن المقفع يقول إن في الكتاب سرًا، والقارئ في سبيل البحث عن السر يعيد قراءة الكتاب في سبيل الوصول إلى السر.. لكن لا يصل إلى شيء. ويقول كيليطو ليس ابن المقفع وحده الذي يقول إن في كتابته سرًا، بل إن الشاعر أبي العلاء المعري لديه بيت شعر يوحي إلى هذا المعنى! يصمت كيليطو قليلا قبل أن يقول: القارئ يبقى في حيرة، ولكن في الحالتين لا أرى ضرورة لتصديق المؤلفين فإذا أردت أن تروّج لكتاب فادعي أن فيه سرًا وسيتهافت الناس لقراءته.. الحديث عن السر هو لإثارة القارئ ليس أكثر.

وحول علاقته بالأدب الصوفي رد الباحث: لم أدرس الأدب الصوفي بما يسمح الحديث عنه، درست فقط بعض القصص التي تتحدث عن متصوفين يقومون بأعمال باهرة كما وردوا في كتاب «التشوف إلى معرفة رجال التصوف» لابن الزيات، واعتبر كيليطو الكتاب من أهم ما كتب في الأدب العربي.

وردا على سؤال سليمان المعمري الذي كان يدير الجلسة حول نزوعه للحديث عن «المرة الأولى» التي تتكرر في ورقته وتتكرر في كتاباته قال الباحث: التجربة الأولى لها علاقة بالألفة والغرابة، وينبغي أن يكون في الآن ذاته غريبا وأليفا وأن يوصلك بغرابته للألفة أو العكس بحسب الجرجاني.. مشيرا إلى أن كتابه الأخير الذي سيصدر بالعربية قريبا ربط في عنوانه بين فكرة الجرجاني وفكرة كافكا الذي يقول «من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا»، والأمر نفسه عند أبي تمام الذي ينتقل من منزل إلى منزل وحنينه أبدا لأول منزل. وتساءل كيليطو هل فعلا تأخر الاهتمام بكتاب ألف ليلة وليلة حتى ترجمه أنطوان غالان للفرنسية في سياق رده على سؤال ناصر الكندي حول أسباب تأخر الاهتمام بكتاب ألف ليلة وليلة رغم أن هذا الكتاب كان نقطة تحول في الأدب الغربي فيما بقي العرب ينظرون إليه باعتباره كتابا مصنوعا ويعتمد على الخرافة والفواحش.

وقال كيليطو: هناك باحثون يشككون اليوم في مقول الإهمال منطلقين من العدد الهائل من مخطوطات الكتاب.. لكن كيليطو استدرك بالقول الاهتمام شيء والاعتراف بالقيمة شيء آخر، مشيرا إلى أن القراء العرب اكتشفوا بعد ترجمة أنطوان أن لديهم كنزًا وأنهم لم يعترفوا بقيمته، لكن رغم ما يمكن أن نقوله فهو الكتاب الوحيد المعروف خارج العالم العربي، وصارت ألف ليلة وليلة مرتبطة بالعرب وهم مرتبطون بها.

أما المقامات فيرى كيليطو أنها ما زالت تنتظر مترجمها حتى تحظى باعتراف بقيمتها كما حدث مع ألف ليلة وليلة، رغم أن هناك ترجمات عديدة للمقامات للغات مختلفة، لكنها تنتظر مترجمها الذي سينقذها من الإهمال. وردا على سؤال لهدى الجهورية حول ما إذا كانت كتاباته تؤسس لمنهج نقدي جديد قال كيليطو: لا أدعي ذلك أبدًا، الدراسة العربية لها صورتها ولها قواعدها وينبغي الالتزام بتلك القواعد، لكن هذا لا يمنع أن كل باحث له خصوصيته وأسلوبه، معتبرا أن الجديد الذي يمكن أن يكون قدمه هو أن كتبه صغيرة الحجم تقرأ في ليلة واحدة، وهذا هو الشكل الجديد في النقد على حد قوله.
أعلى