فرنسيس غوين - فستق أبي العلاء المعرّي.. ترجمة: إسماعيل أزيات

يُمتعنا عبد الفتاح كيليطو، على فترات منتظمة، بمباحث حول موضوعة محدّدة، جولات عبر الأدب العربي، تجعلنا نظرته الثاقبة والمتوقدّة نعيد اكتشافها من جديد: "لسان آدم"، "العرب وفنّ الحكي"*... لكن ها هو اليوم يكرّس كتابا بأـّمه لاسم واحد من أسماء هذا الأدب.
أيّة شخصية استثنائية حظيت بهذا التناول المميّز؟ أقلت أبا العلاء المعرّي؟ ما وراء ما تعرّض له من تجاهل؟ استحقّ سطرين في "لاروس الصغير"، عشرة أسطر في "روبير الصغير". من يفتح موسوعة أونيـﭬرساليس يمكن أن يطالع عنه صفحة كاملة، وفي موسوعة الإسلام عرضا معمّقا. إنّه إذن شخصية مغمورة بالنسبة للقارئ الفرنسي، اسم محفوظ للمتخصّصين، للمستشرقين. وماذا عن القرّاء العرب؟ يعرفون اسمه، لكن قلّما يعرفون تأليفه. إنّه، أكثر من ذلك، يتعرّض للمنع في فضائه اللغوي، مثلما حصل في معرض الجزائر للكتاب عام 2007. ليس فقط تمّ دفنه تحت غطاء غليظ من النسيان، ولكن أيضا، وبعد انصرام عشرة قرون، تثير قراءته الشبهة والارتياب.
ومع ذلك فإنّ عنده ما يوقظ اهتمامنا. قبل الآن، وفي عام 1919، رأى أسين بلاثيوس في "رسالة الغفران" مصدر إلهام "للكوميديا الإلهية". إلاّ أنّه كذلك جسّد قبل الأوان بعض قمم الأدب العالمي: ميلتون، الشاعر والكاتب اللاّمع، الأعمى مثل المعرّي، مؤلّف "الفردوس المفقود"؛ شوبنهاور، فيلسوف التشاؤم؛ شيوران، المتوحّد المنغلق في برجه العاجي ، الذي كتب "من السيّئ أن تولد" ــ الحياة هروب من فاجعة الولادة ــ؛ خورخي لويس بورخيس ــ أعمى آخر ــ الذي، هو أيضا، لا يعيش إلاّ من أجل الأدب، يمنح الانطباع بأنّه قرأ كلّ شيء، ويتقاسم مع المعرّي التواضع كما الرّعب من الإنجاب ومن المرايا. كلّ هذه الأسماء جدّ المعروفة لها مع المعرّي صلات قرابة شديدة.
ألكلّ هذه الاعتبارات انصرف كيليطو للنّبش عنه؟ إنّه، في كلّ الأحوال، يهب هذه الشخصية السورية الاستثنائية حياة جديدة، يرسم لها ملامح محبّبة ومحيّرة في الآن نفسه. فستق المعرّي: ذريعة لكشف نظرته السلبية للحياة، مؤاخذته أبويه على إنجابه ورفضه للأبوّة، مفتاح سجنه لنفسه بشكل طوعي ولتقشّفه. "رسالة الغفران" تقودنا إلى ما وراء القبر، موضوعة أدبية وفنية دائمة الحضور. هل ابتغى المعرّي أن يكون متكلّما ؟ كلاّ، إذا ما صدّقناه. والحال أنّ آخرته هي آخرة أدباء، محجوزة لمن كانت لهم مجازفات فكرية. ها نحن ترانا نستند إلى معتقده شديد التّعقيد الذي أربك معاصريه، وكثير منهم اشتبهوا في زندقته. شاعر؟ بلى، شاعر كبير، غير أنّه يدّعي التخلّي عن الشعر، هو زهو وكذب ــ ومع ذلك يواصل كتابته. أيّ مفتاح هو لفتح هذا الباب الممتنع، لاقتحام واختراق السرّ؟ يقرّ المعرّي بأنّه يكتم سرّا، لكنّه يحتفظ به لنفسه. أوبالأحر، علينا أن نستطيع تخمينه، لكن بضرورة التزام قراءة ما بين السّطور. ها قد تمّ طرح مسألة اللّغة: هل التواصل ممكن؟ هل الحوار بين الكاتب ــ القارئ هو حوار أصمّ؟ نلفي أنفسنا في عالم الارتياب، إشكالية معاصرة تماما...
هذا البحث، الذي يسمح بإبصار بعض أوجه الشاعر الأعمى، يوقد فضولنا، يوقظ رغبتنا في معرفة المزيد عنه، أن نقرأ بأنفسنا هذه النصوص المستغلقة التي ترجم قسم منها إلى اللغة الفرنسية. من يدري، ربّما نكون أكثر مكرا من الآخرين فننفذ نحن إلى سرّ المعرّي.
* نص مقدّمة الترجمة الفرنسية ‘Les pistaches D’ABOUL’ALA’AL-MA’ARRI (2019, Toubkal) بقلم المترجم لكتاب عبد الفتاح كيليطو "أبو العلاء المعري أو متاهات القول" (توبقال 2000)


** Francis Gouin (1936 ـ 2022) رجل دين ومترجم نقل إلى الفرنسية العديد من الأعمال الأدبية ومن ضمنها مؤلفات الأديب عبد الفتاح كيليطو المكتوبة بالعربية: "لن تتكلّم لغتي"، "الحكاية والتأويل"، "الغائب"، "أبو العلاء المعري أو متاهات القول" و"بحبر خفي"...
*** Les Arabes et l’art du récit (2009). مباحث هذا الكتاب موزّعة بين"الأدب والارتياب" (توبقال 2007) و"من شرفة ابن رشد" (توبقال 2009)



(ملحق "العلم الثقافي"، الخميس 4 يناير 2024)
أعلى