عبدالقادر حكيم - صعوداً نحو قاع الطين.. قصة قصيرة

قبل ثلاثة عقود خلت، من جلسته الآن وحيداً، في صباحه الأنكونيّ (1) الرتيب، وحين كان شاباً نضراً يُحسن العشق، كتب إليها:

" كبّليني بحسنكِ.. كبّليني، قيديني بصدودك، ثم القِيْ بالمفتاح في أعمق جبّ على مدى شمعتين من جموحك الضاري، الذي ينثال في كل المسارات/ الفضاءات، عدا تلك التي تفضي إليّ، ثم تظاهري بأنك قد أضعتني فحسب، وإذ تجدين المفتاح الأخرق، في زمان آخر غير ذي دنفٍ، اطلقي سراحي في عينيك؛ كي أرى ما لا ترين!".

لكنها كانت لا تفهم كيف له أن يلج عينيها كفرحٍ صاهل يخبّ في الذاكرة ، يرى عنها ذرات الهباء في تسلقها رماح الشمس التي تخترق كوخاً متهالكاً أسفل (دِبِرْ سالا) (2)، في طفولتهما المبكرة؛ يلوذان إليه إذ يداهمها المطر، طفلان يرعيان الأغنام على حواف قريتهما الوادعة، في السهل الممتد خضرة وضياءً وماءً نميراً حتى سفوح (حنگل أدگ) (3). يتململ في جلسته الصباحية، في شقته الأرضية المتواضعة، كلاسيكية الأثاث.. المنتقى جيداً ليسكت قليلاً صريف الحنين الذي يتآكله طيلة سنوات التشظي التي عاشها بعيداً عن دياره؛ راكضاً خلف لا شيء؛ في المطلق البهيّ في صعود الحسرة والخذلان إلى برزخٍ من بقاياه.. كل شلو فيه يزحف نازفاً في رحلة الفتق والرتق إلى بعضه، هارباً من حبه الموؤود، ومن وجه عمه الزنيم..

- " ماذا تملك غير تلك الشهادة التي أتيت بها من مصر؟

-" عمّي يمكنني أن.."

-"حتى أبقار أبيك نفق بعضها في عام المجاعة، وبعضها الآخر استولت عليه ( طور سراويت)" (4)

- " عمّي.. أنا أولى بها من ذاك الغريب و.."

- " قضي الأمر! كن رجلاً وتقبل الأمر"

وإذ ذاك، وكما كان يفعل أسلافه حين يباغتهم وغدٌ ما بما لا يطاق، ولا يحتمله دم، صرخ في وجه عمه، ولأول مرة:

- " أنا! شنكحاي ود أشد!"

ثم سادت المكان لعنة.. ارتفع خيط ليلي رفيع، تكاثف وتلوّى في الفراغ الممتدّ دامساً وناصلاً في كل أرجاء القرية، وهوى طائر ليليّ حزين ضلّ طريقه إلى عشه، ونهق مذعوراً حمار تعيس وثب عليه ذئب جائع. خرج في ساعته تلك؛ مكباً على وجهه لا يلوي على شيء. تسلّق بخفة قط بريشجرة السنط الوحيدة في الغابة، غير آبه بطعنات أشواكها، وبكى طويلاً في صمتٍ، ثمّ ضحك على نحو هستيري، كان يضحك من سذاجته ومن خياله العقيم الذي اجترح تلك الأحلام الكبيرة ، المجهضة الآن. لاح له في ذاكرته، جدّه حريراي ود أشد، ممسكاً بعصاته الخيزران، مشيراً بها إلى شجرة السنط الوحيدة في الغابة، التي صعد إليها للتو:

-" تلك الشجرة مباركة يا ولدي؛ غرسها نبي الله الخضر.."

ثم مبتسماً يذكر له الجزء الأهم في القصة:

-" لقد رأيته!"



هدوء المكان حوله، لا يخلّ بتماسكه سوى طنين زنبور في الباحة الخلفية للمبنى، والذي يصله بين الفينة والأخرى عبر نافذة المطبخ المفتوحة. ينهض، يسير خطوتان ونصف خطوة صوب النافذة المطلة على الأدرياتيكي؛ يهمّ بفتحها لكنه يحجم عن ذلك إذ يتذكر الصهد، والرطوبة التي تتصاعد عادة في صباحات أنكونا الصيفية.. يخاطب نفسه:

-" لماذا هو ملول هكذا؟.. ألأنه قرّر عدم الخروج في هذا اليوم؟.



ساقانممتلئتان بيضاوان تتأرجحان ممزقة جزيئات الهواء المشبع بالرطوبة، في الفراغ الذي يقع اسفل بلكونة شقتها حيث تجلس بسأم. يتعالى إيقاع اغنية تدفعها الرياح الدافئة من مسافة شارعين ناحلين، مصدرها مطرب جوّال يبيع حنجرته الشائخة للمارة من المتسوقين، و صائدي السمك، وعمّال الميناء، والفضوليين، وسماسرة يتاجرون في كل شيء. يتوقف الزنبور عن الطنين؛ ربما هو منهمك الآن في بناء مسكنه:

-" ها قد صار للزنبور بيت يأوي إليه، وأنت.. يا للأسى!، لا بيت لك!.. بإمكان هذا الزنبور أن يقف الآن على احدى قوائمه، فيتغوّط، ثم ينظر إليك متحدياً بعينيه اللتين لو قمت بتكبيرهما بزوم خيالك لصارتا عينا كائن فضائي!.. أي بؤس أنت فيه؟!!

يرنّ هاتفه، يردّ:

- "شِنكا؟"

-"نعم.. لقد ترجمتُ فقط الجزء الأول من المادة"

-" هذا هو المطلوب لليوم، رجاءً أرسله إليّ الآن، وسأبعث لك بالشيك"

- " ڤابيني " (5)

يقوم إلى حاسوبه العتيق، يرسل الإيميلإلى مديره. يتجوّل على غير هدى في أرجاء شقته، كما فعل قبل ثلاثة عقود بصعوده إلى شجرة السنط الوحيدة في الغابة؛ تحمله الذكرى إلى أبعد من ذلك اليوم..كان ممسكا بكلتا يديه برسن بقرته الأثيرة ( سوتَيِتْ) (6)، متشبثًا بها، تتدلّى تعويذة جلدية على صدره العاري، وكان يبكي، ويسيل مخاطه متخالطاً بدموعه، بينما عمه يحاول تخليصها منه.. خرج إليهم جده غاضباً:

-"ماذا؟!.. ألم تجد من كل القطيع سوى هذه؟ هل تريد أن توجع قلب الولد اليتيم؟ إختر غيرها فهذه لن تبيعها أنت ولا غيرك"

- " سأبيع ( هَبْرَمْ) إذن" (7)

لم يردّ عليه، بل عاد حانقاً - وهو يبسمل ويحوقل - إلى قيلولته.

يحاول جاهداً أن يتذكر باقي التفاصيل التي تلت تلك الظهيرة البعيدة.. كيف قضى ليلته في ذلك اليوم سعيداً بانتصاره في احتجاجه الأوّل ضد عمه. يزفر، تغرورق عيناه بالدموع، ويفكر:

-" لو كان جده حاضراً في ذلك اليوم المشؤوم لكانتنسريت ولت أشد من نصيبه ولم يكن ليهنأ بها ذلك الجاهل البدين"

يقوم بتنضيد الأثاث، يغيّر أكياس الوسائد بأخرى من قماش ( الكاني) (8) ، يجلب من المطبخ حفنة من البخور العدني يضعها على المبخرة، ويضيف إليها قليلاً من خشب الصندل، يتعالى الدخان العطر في أرجاء المكان، يدير مروحة السقف ويجلس القرفصاء على الأرضية الخشبية، يغمض عينيه، ويحاول ألاّ يفكر في شيء، لكنه لا يفلح؛ إذ تتسلل إليه نسريت تمازحه وتضحك له؛ ليس كما تفعل الأخريات، بل كعصفورة أنجزت للتوّ عشها، ثم صعدت إلى أعلى غصن في شجرة ظليلة؛ أمامها المدى شاسعاً، وأخضراً، وندياًّ. يقف أمام النافذة للحيظات ثم يحضر من البلكونة الخلفية مقعده العالي، يضعه أمام النافذة، وعبر زجاجها، يطالع الطريق أمامه، والبحر، والسفن الراسيات في الميناء، والكاتدرائية ببرجها العالي والتي يتوزع الآن افريزها بين الظل وشمس الظهيرة الحارقة. ما تزال جارته المتصابية في الطابق الذي يعلو شقته، جالسة على أرضية بلكونتها، تحرك ساقيها في سأم ورتابة ظاهرين. بعد قليل سيتوافد عمال الميناء على المقاهي لتناول الغداء، وسيملؤون المكان صخباً. من أحد الأزقة تبرز امرأتان شديدتا النحول، ترتديان ملابس فضفاضة، في طريقهما إلى شارع الميناء، كانت إحداهما تمتشق آلة كونترباص، والأخرى تتأبط ناياً وتحرك يديها في نزق، وتمجّ من سيجارة في الرمق الأخير انفاساً متتابعة.

تكفّ جارته الشبقة عن تحريك ساقيها، تبدو الآن كحدأة تركز على فريستها على الأرض قبل الانقضاض، تنهض على نحو مباغت كما لو قرصتها نملة خرجت من ركام رتابتها التي كانت عليها قبل قليل، تنادي شخصاً ما بأعلى صوتها :

-"فيدريكو! فيدريكو.."

من بين الحشد على شارع الميناء يمرق صبيّ صغير، يتحرك نحوها.. تركض هي على السلالم. يتنزى فضولٌ غريب في داخله لمعرفة ذلك الشاب، بعد دقائق قليلة يراهما يصعدان السلالم متخاصرين. ينظر إليه المراهق ذي الشعر الأحمر بتحدّ لم يدرك كنهه لوهلة، لكنه لمح في عينيه يتماً مقيماً. جارتها العجوز التي تسكن في الطابق الذي يعلو شقتها، والتي تجلس عادة في ذلك الوقت على بلكونتها تطرز اقمشة ملونة، صاحت:

- " يا للمسيح! "

غالباً أنها رسمت علامة الصليب بعد تلك العبارة. حين تناهى إلى سمعها صهيل جارتها وهياج الفتى، صرخت بصوت تخلله سعال جاف:

-" يا للمسيح! سوف لن يغفر لها الرب أبداً"

يغامر، فيفتح النافذة على مصراعيها؛ آملاً في أن يشوّش الضحيج في الخارج الأصوات التي تأتيه الآن من اعلى. تهاجمه الرطوبة، التي كانت في أدنى مستوى لها. الريح الخفيفة تحمل له رائحة البحر الممزوجة بعبق الأزهار والسمك المشويّ، والنبيذ المعتّق. تنضم العازفتان النحيلتان إلى المغنّي الهرم، يعزفون في تناغم جميل، لكنه يميّز أكثر صوت الناي فيملؤه حزناً على حزنه. يضيف حفنة بخور أخرى إلى المبخرة، ثم يعود إلى موقعه. في اللحظة التي يتوافد فيها عمال الميناء إلى المقاهي افراداً وجماعات، تبدأ الفرقة في الغناء. يدخل الزنبور عبر نافذة المطبخ، ويدور في فضاء الشقة، يتيه وسط سحابة الدخان، يدور في قلق عكس دوران المروحة. في اتساق وانسجام فريدين تتعالى الاغنية، تخفت حيناً وتعلو حيناً آخر بصوت جهوري وآخر أنثوي، يشتعل المكان بالغبطة، يرقص الجميع، أزواجاً أزواجاً، يرفضّ كامل جسده للمقطع الأحبّ إليه من الأغنية:

" مساء أمس، آنا، صعدتُ

هل تعلمين إلى أين؟

هل تعلمين إلى أين؟

حيث هذا القلب الجاحد

الذي ما عاد يؤلمني

ما عاد يؤلمني" (9)

يقفز عن مقعده العالي، يبدأ في تحريك قدميه، يدقّ الأرض بعنف، يحرّك يديه، يرفعهما إلى اعلى، يتقافز، يركل بساقيه مع الإيقاع، ثم في محاكاة خائبة لزوجين يرقصان بولع وشغف كبيرين، يخاصر الهواء، يخمشه من خصره، ينثني الهواء ، تتثنى الأنثى المتخيلة، يبسط يده اليمنى، يضعها اسفل ظهرها، يسراه تتشابك مع يمناها، تتقوّس، يجذبها إليه، تستقيم واقفة، تنفرج ساقيها، تضمهما، اليدان ملتحمتان الآن، تدور هي حول نفسها، يدقّ الأرض، ثم يدور حول نفسه، يدور، ويدور الزنبور في موازاة المروحة، تدور المروحة، يدور هو، يدور.



أمستردام – خميس مشيط

3 فبراير 2024 – 15 فبراير 2024





هوامش:

———

(1) نسبة إلى مدينة أنكونا في إيطاليا.

(2) أطول سلسلة جبلية في إرتريا.

(3) إسم لجبل يقع في أعالي إقليم بركة في إرتريا.

(4) القوات البرية في الجيش الإثيوبي. مارست انتهاكات جسيمة بحق الشعب الإرتري ابان فترة الاحتلال الاثيوبي للبلاد.

(5) بمعنى حسناً في اللغة الإيطالية.

(6) من أسماء البقر عند الناطقين بالتگريت.

(7) من أسماء البقر عند الناطقين بالتگريت.

(8) تسمية محلية، قماش بألوان زاهية تُصنع منه أزياء للنساء في إرتريا.

(9) مقطع من (FuniculìFuniculà) ، وهي اغنية إيطالية شهيرة للمغنّي لويجي دينزا ( Luigi Denza)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى