ناصر الجاسم - دخان الأقدام البيضاء

في البدء:

"الأجساد تحزن وحزنها الذبول والاصفرار".

"عندما يأخذون منك امرأة فإنهم يعطونك لغة وتاريخاً".

* * *

برد الأحساء يقذف الأجساد في الأجساد.. يماسس الأفخاذ الباردة بعضها ببعض فتدفأ.. ويجذب الأغطية إلى الأقدام فتنتفخ بطون النساء في أوائل الصيف الحار.

كانت مخلفات الليلة الشتوية الباردة كتاباً إلى الحزن كتبت فيه:

( يا سيدي الحزن آن لك أن ترحل وتترك مكاناً للفرح)

إلى عراء الصبح الأول أمشي.. وكنّ في العراء الثاني قبل لمس الماء أجسادهن يركضن سوية في الحقل وعلى الرمل وتركض شعورهن خلفهن وصدورهن من أمامهن تركض.. يركضن يركضن ولحمهن يرتج في قلبي فأنتقي ركضها وتقف لي خرساء الأساور.. احتجت على انتقائي ركضها فانتقت رملاً تحت قدميها ورشقت به وجهي فاغبر شاربي بدخان الرمل وضحكن كلهن وتثنّين إلا هي تماسكت فخانتها عيناها.

أتيت إليهن من خلف الرقابة فوجدتهن في العراء الثالث للصبح يغمرن أقدامهن البيضاء في البركة الدافئة ورغوة صابون على ساقيها وهن يتناوبن في دعكها بخيوط الليف البيضاء.

ماء في الماء ودخان في الدخان ولا ماء في جسدي وأجسادهن ماء.. دخان دخان والبركة خلو منهن.. برد برد والماء الدافئ يغمرني وأنا مغمور منذ زمن بحزن جسدي وبحزن أغطية شتائي.

صار الماء ماءً وعطراً بعد خروجهن منه.. استحم في الماء تالياً.. أتكئ على الماء والماء يخذلني فأسبح في عطورهن.. وعطر خرساء الأساور ينتشلني من دخان الماء والماء.

أتيت إليهن من خلف عطورهن ومن خلف الامتداد الطويل لعطر خرساء الأساور..

خضاب سوداني أول على ساقيها المشحمتين ونقوش هندية فيها تُقرأني اللوعة.

خضاب سوداني ثان على يديها الملحمتين ونقوش هندية فيها تقرأني الشوق.. وظفائرها السوداء تسحب بالمشط على ظهرها العاري.. الشعر يسعى في دمي وشعرها في كفيه يسعى.. أساورها الخرساء تنطق في فراشه وعلى أثاث منزله وفراشي لم يسجل أي تاريخ للأساور..

ليل ليل ونار في الدخان.. تبغ تبغ وأوراقي مسودة حاضرة.. عطر عطر وخرساء الأساور تطرق باب منزلي.. حين مشت على السجاد أمامي لم يكن لقدميها ولا ليديها أي صوت وكان لقلبي صوت جديد غريب.

ماء في الماء.. دخان في الدخان.. جسدي في جسدها دفء في دفء والبركة عطر في عطر.

العيون- الأربعاء 15/11/1995م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى