ناصرالجاسم - طيرُ العرفج

قالت العرافة الجوالة الجميلة بعد أن أنزلت صُرّتها من على رأسها وبسطتها وأخرجت لهن الكتاب وفتحته، وقد جلسن أمامها كطالبات علم يسمعن الدرس:

سيأتيكن يا بنات طيرُ العرفج، الذي أرى الآن صورته الجميلة في الكتاب، يأتيكن ليلاً في القريب العاجل، وهو في كل ربيع يتبدل لون عينيه من الأسود إلى العسلي إلى الأزرق، وإنني أرى الآن في الكتاب أنه قد أختار في هذا الربيع اللون العسلي لعينيه، وهو طير في كل ليلة ربيعية تزحف زهرات برية من برّكن إلى جسده فتعطره بعطرها، فيتضوع كل جزء من جسده في تلك الليلة وهو مع إحداكن في سريرها بعطر الزهرة البرية الربيعية التي عطرته، وإنني أرى الآن في الكتاب أنه قد تعطر بعطر عرفجات طريات طيبات زحفن إليه ولم يعدن إلى منابتهن بعد في بركم المعشب المزهر بكل أصناف الزهر البري.

هو طير يقطّر في فم كل واحدة منكن ماء البَرَد بفمه إذا قبلها في فمها وهي عطشى، وإنني أرى الآن في الكتاب أنه قد ارتوى من حبات البرد التي ذابت في غديركن، وهو طير لخديه لون أفخاذ البنات البيض، ولفخذيه لون خدود البنات البيض، وإنني أرى الآن في الكتاب لون خديه كألوان أفخاذكن البيض، ولون فخذيه كألوان خدودكن البيض..

هو طير يبدل في كل ليلة ربيعية شعر رأسه الجميل بشعر رأس فتاة جميلة نام معها، وإنني أرى الآن في الكتاب أنه قد اختار شعر رأس واحدة منكن واختار النوم معها..

هو طير إذا لامس جسده جسد فتاة جميلة رمى عطره على سرتها ورحل وبقي عطره في جسدها العمر كله، وإنني أرى الآن في الكتاب أنه سيرمي الليلة عطره على سرة فتاة جميلة، فتاة ليست طويلة ولا قصيرة، ولاهي متينة أو نحيفة، سيرمي طيرُ العرفج عطره على سرتها حين تكون سرتها تحت نجم يضيء وهي نائمة في البر المزهر المعشب.

هو طير إذا طالت معاشرته لفتاة جميلة كافأها على حسن معاشرتها بغرسه في شعرها وردة لا تذبل العمر كله، يغرسها وهي غافية خدرة من لذة المعاشرة، وإنني أرى الآن في الكتاب أنه قد خبأ تحت جناحه الأيسر قرنفلة حمراء وطار بها إلى فتاة جميلة ولم يظهر في الكتاب من أي بلد جاء بالقرنفلة، وربما يظهر اسم البلد في الكتاب بعد ثلاثة أيام..

هو طير إذا أعجبه نهدا الفتاة احتضنها وطار بها فوق السحاب، وإنني أرى الآن في الكتاب أنه معجب جداً بنهدي فتاة منكن، ولكنني لن أقول اسمها حتى لا يعلم طير العرفج أنني أكشف أسراره ويغضب علي..

هو طير يجب أن تغار منه الطيور، ويكره أن تغار البنات من البنات بسببه، وهو لا يغوي البنات ولا يكذب عليهن حتى يحملن منه ثم يتركهن حيارى بابنه، هو الطير الوحيد الذي يخجل النمل من لدغه في ساقيه، ويستحي الذباب من الوقوف على أنفه ، وتسقط البنادق من أيدي الرجال إذا رأوه طائراً بواحدة من بناتهم، ويتمنون أن تكون زوجاتهم في مثل حسنه وجماله..

وعليكن أن تعلمن يا بنات أن طير العرفج لا يظهر وفي المكان بنتان أو أكثر، يظهر إذا كان في المكان أو في البر فتاة لوحدها، وعليكن أن تعرفن أن طير العرفج إذا أحس بواحدة منكن جاءت إلى صديقتها وهو عندها طار قبل أن يسقيها ماء ريقه ، ماء ريقه الذي يبقى طعمه الجميل في فمها من الصباح إلى المساء، أو طار قبل أن يرمي على سرتها عطر العرفج، أو طار قبل أن يغرس في شعرها الوردة، وردة القرنفل، أو النرجس، أو غيرها، فكن حذرات..

سألت إحداهن العرافة وقد أحضرت من خلفها شعرها الطويل الجميل الجالس معها وأقعدته فوق حجرها: هل زارك طير العرفج يا خالة؟!. فردت العرافة باقتضاب وهي تنظر إلى شعر الفتاة: لا. يا بنتي.

علقت إحداهن وقد أحنت صدرها كثيراً إلى الكتاب لتعرف العرافة جمال نهديها: ولكنك يا خالة أجمل منا، فلماذا لم يزرك حتى الآن طائر العرفج؟! ردت العرافة بصدق واضح وهي تحلم أن يكون نهداها كنهدي الفتاة: أنا أعمل عرافة في كل فصول السنة، وفي كل الفصول تحتاجني النساء، وتزداد حاجة النساء لي في فصل الربيع، لأنه فصل التزاوج في كل بر، وغالباً لا أكون وحدي فأخسر لذلك فرصة زيارة طائر العرفج لي! قالت الثالثة وقد قامت من مكانها لترى البنات أنها ليست القصيرة ولا الطويلة، ولا المتينة ولا النحيفة: أنتِ في ضيافتي الليلة يا خالة! ردت العرافة وقد أقرت في سرها روعة الجسد المتناسق للفتاة: أنا الليلة في ضيافة غدير البنات، سأغتسل هناك من تعب السفر، وأنام عند أشجار الغدير التي تعلق النساء فوقها ملابسهن إذا نزلن الغدير عاريات..

وأخذت الكتاب من أمامهن وحشرته في جوف صرتها وعقدتْها ثم قالت وهي قائمة: استعدن يا بنات للقاء طير العرفج بحلق شعور آباطكن وشعور عاناتكن، وتطيبن بالريحان وبزهور البر، وأكثرن من الاستحمام في غدير البنات، حتى لا يأتي طير العرفج واحدة منكن وهي غير جاهزة للقائه والنوم معه فيتركها ويذهب إلى أخرى غيرها؟ وغداً سأزوركن يا فتيات قبل أن أرحل إلى البر الثاني لأعرف من هي التي اختارها طير العرفج في ليلته هذه..

ذهبت العرافة الجميلة المتجولة قاصدة غدير البنات وخلعت ملابسها وعلقتها على الأشجار النامية حول الغدير، وفتحت صرتها وأخرجت كتابها وخبأته في جوف شجرة عجوز نخر الدود جزءاً من ساقها ونزلت تسبح في الغدير وهي تفكر في رحلتها إلى البر الثاني ولما انتهت من استحمامها، وتطيبت بزهور البر وارتدت ملابسها، نامت تاركة الغدير للفتيات ليواصلن استعداداتهن السرية للنوم مع طير العرفج..

عادت إليهن في ضحى اليوم التالي وقد وجدتهن أضحين أكثر جمالاً ونضارة مما كن عليه من قبل، ولاحظن أنها بدت أكثر شباباً وإشراقاً بعد تخلصها من وعثاء السفر، فتحت أمامهن الكتاب وسألت من التي زارها في الليلة الماضية طائر العرفج؟!

قالت الأولى: أنا يا خالة، وقد وضع بعد أن نمنا معاً هذه الوردة في شعري.
قالت الثانية: لا، بل زارني أنا وها هي ذي رائحة عطر العرفج تفوح من سرتي.
قالت الثالثة: لا لا يا خالة أنا التي سقاها طائر العرفج ماء البرد وقبلها في فمها.
قالت الرابعة: والذي خلق غدير البنات وأجرى الماء فيه، أنا التي ضيفت طير العرفج البارحة، ثم كشفت لهن عن فخذيها، ووضعت إصبعين من أصابع يديها على خديها وواصلت: ورأيت بعيني لون خديه الذي كلون فخذي ولون فخذيه الذي كلون خدي.
قالت الخامسة وقد تفاجأن بشعرها الطويل الجميل مصبوغاً بالحناء: لا، والذي جمل عيون طير العرفج بثلاثة ألوان، طير العرفج بغاني ورادني وما بغى غيري ولا أرادها، وهذا شعره الذي بدله بشعري!!

أخذت العرافة تنظر ملياً في الكتاب وما انتبهت إلا وهن يترافسن بأقدامهن ويشددن شعر بعضهن بعضاً بأيديهن تارة، ثم بأيديهن تارة أخرى يلطمن خدود بعضهن بعضاً وقد أجابت العرافة عن سؤالها بعد أن اكتفين رفسا وشدا ولطماً، فقالت :

طير العرفج نام معي البارحة تحت نجم يضيء عند غدير البنات، وسقاني بفمه من ماء البرد، ورمى عطر العرفج على سرتي، وغرس في شعري قرنفلة بعد أن استبدله بشعره، واحتضنني وطار بي على السحاب، وأعاد لي الكتاب الذي سرقتنّه من جوف الشجرة، وقد نسيت أن أعلمكن أن طير العرفج لا ينام مع البنات السارقات، ولا ينام مع البنات الكاذبات!.



ناصر سالم الجاسم
الجمعة 6/3/1426هـ ، 16/4/2005م


The_Birth_of_Venus_(1879).jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى