سعيد الكفراوى - جناحان لعلي

جناحان لعلي
سعيد الكفراوى

دارنا المقامة علي التلة، تكسوها طبقة جديدة من الجير، وتعلو سطحها أعلام ملونة ترفرف بعلامة الفرح، وعلي واجهتها رسوم لسفينة راحلة علي شراعها كتابة، وبجانبها رسم، أسد يحمل سيفا، وجمال علي ظهرها المحمل.
فرح أختي اليوم !!
خلف البوابة فناء به شجرة ليمون، وأخري برتقال، ونخلة مديدة زرعها الجدود ورحلوا.
وكنت أتسلقها كل نهار لأطل علي البحيرة، وأري سرب الطيور البيضاء، وأسمع صوت أمي : حاذر. عمك سقط من فوقها ومات من فوره. هذا النهار لم تحذرني، وأستمرت ترتب شئون الفرح في صمت هي وبنات الخالة، وبعض الرفيقات اللائي جئن علي عجل.
ألقيتُ لأرانب الدار خضرتها، وللطيور رزقها، ووضعت البرسيم أمام الماعز المربوطة بجوار الجدار، ولعبت مع أخواتها من الجديان الصغار، وعدوت خلف الجدي المنقط حتي المنحدر، وحملته عائداً وهو يثغو محاولا الافلات مني.
خرجت أمي من القاعة الداخلية. كانت معفرة بدقيق الخبيز، وكانت تحمل ماعون العجين الذي حطته علي الأرض وباشرت لته في بعضه فيصدر صوتا مثل قرع الطبلة. بنات الخالات تخرجن وتدخلن حاملات أواني النحاس، وصواني الخبيز يضعنها أمام الفرن في الفناء استعدادا لخبيزة الفرح. وكنت أري الفراشات الملونة تطير بين الخضرة في الشمس بأجنحتها الملونة خافقة فأطاردها من الباحة حتي رأس التلة. ومن الداخل يعلو صوت غناء الراديو بالصوت الجميل، وبهجة الموسيقي.
واجهتني أمي :
- متأكد من مجئ نادر ؟
- جدا يا أمي.
- يعني سوف يحضر كما وعدك؟.
- نادر صاحبي ولسوف يحضر.
- إياك أن يخلف الوعد.
- سوف يجيء.
- ومعه سيارته ومزيكة للفرح ؟
- وعدني أمام والده، ووافق.
- نحن بعيدون عن العمار، واعتمادنا علي الله، وعليه، والعروسة أختك محتاجه لسيارة تزفها الي عريسها في البلد.
نفضت يدها من الدقيق وتنهدت، ومسحت عرق جبينها بطرف طرحتها، هزت رأسها وتنهدت مرة أخري، وهمست لنفسها :
- علي الله التساهيل، وقادر ربك ما يكسر الخاطر.
أتلصص، وأخطو عتبة الدار، مجتازا وسطها، قاطعا الممر المعلق علي جدرانه صور للكعبة الشريفة، وسجادة من القطيفة مرسومة بالمسجد الأقصي، لأري أختي العروس بين يدي الماشطة تفرد شعرها السرح الطويل، الأسود مثل ليل غطيس، وتدعكه بالزيت، وتلفه في دوائر علي قطع من الخشب. كانت أختي تحت المصباح في الحجرة التي يتسلل لها ضوء النهار بالكاد، تجلس أمام المرأة فيسطع نور وجهها المليح بابتسامته المنورة، وجسدها الفارع مليحة مثل بدر. وعيناها واسعتان

ضاحكتان مثل أبواب الجنة، وخداها مثل تفاحتين.
أختي "نوارة" التي حملتني صغيرا، وحمتني من بطش أمي، وكانت تأخذني من يدي يوم الإجازة إلي البندر، وتشتري لي كتاب الحكايات، والصور الملونة من المكتبة في الشارع المزدحم، وتشتري لي شراب الخروب والحلوي من المحل العتيق، وتدور بي في المدينة حتي عتبات الولي سيدي إبراهيم حيث تقف أمام مقامه. وكنت أسمعها تقرأ له الفاتحة وتدعو لي هامسة "يسترك ربي يا علي يا خويا ويحفظك من شر العين، ويحبب فيك خلقه، ويعلي مراتبك، ويجعلك من الناجحين".
أقبض علي يدها ناظرا في عينيها، وقد تخضلت بالدموع.
أحببت "نواره" أختي، واعتبرتها الصدر الحنون لي، وهي كانت توصلني كل صباح حتي طريق الزراعية المرصوف، وكانت الدنيا شتاء، مكبوسة بالمطر، وتلقي علي البلد جوا عابسا جهما. كنت أحدثها عن ريح الشتاء، مصورا لها قصف الرعد، واشتباك جمال الصيف مع جمال الشتاء، وهطول السيل علي وأنا أمشي وحدي علي الطريق في اتجاه المدرسة. كنت الحظ خوفها وهي تقبض علي يدي وأسمعها تهمس لنفسها "يحفظك ربي، ويرجعك بالسلامة" وأنا أبتسم بمكر حين أثير مخاوفها، وحين تكون بجانبي يخفق قلبها بالقلق.
أغيب عنها، وأنا أمشي علي طريق طويل. أصغر رويدا رويدا تحت السما، المشبرة، وهي واقفة بمكانها لا تزال، حتي أختفي تماما فتعود الي البيت بقلقها حتي أرجع في العصر.
جلستُ أمام كانون النار أقلب جمراته. عليه إناء من نحاس يتبخر مرقه، وقطع اللحم بداخله يقلبها الغليان، والنار المشتعلة تعلو نافذة من تحت النار. أحب رائحة النار، ورائحة خشب الصفصاف العطرية، وأنا في جلستي أمام الكانون أسمع صوت الريح، وبداخلي سعادة مختلطة بقلق انتظار صاحبي نادر. هل سيجئ.. ماذا لو عملها ولم يحضر؟ .. بيتنا.. أمي واختي.. وأبي الذي رحل وأنا صغير، والذي لم اعرف أراضيه أبدا.. قالوا انه غرق في البحيرة، وأكله السمك.. وقالوا شدته جنيه وغاصت به للأعماق البعيدة وإنها كل ليلة تخرج وتمشي علي الماء وتطلق غناء مثل السحر : عروسة يا عريس، وإنني كثيرا ما أخاف بالليل وأشد علي رأسي الغطاء، وأفزع قبل الفجر من عز المنام.. بيتنا.. الفئران في الجحور والأرانب في بيوتها.. بيتنا ملاذنا الطيب، الأول والأخير.. ماذا لو لم يحضر نادر؟ .. كيف ستقطع أختي هذه المسافة الي البلد ؟.. وعدني. سوف يأتي بسيارته الصغيرة، وفرقة موسيقي تزف أختي.. قال لي يومها : فرح نواره فرح آختي مريم بالتمام.
مال ميزان النهار، والشمس تلم نفسها مغادرة نحو المغارب، والوقت يسرقني ويسرق أمي التي تخرج كل حين وتطل علي الطريق، وظلي يعدو خلفي، والسكة مقطوعة، لا أحد هناك. ولا رجل تدب علي ترابه الطريق الذي ارقبه، يضربني قلبي مثل جناح الطائر. وماء البحيرة تلونه الشمس الحمراء، ومركب يدفع الهواء شراعه. وآنا أقف بين حد الظل، وحد الغياب يناوشني انقطاع نادر صاحبي ورفيق مدرستي.
بدا لي الأمر مرعبا، عندما كنت اري أمي خارجة من الباب، واضعة يدها مثل مظلة علي عينها تتأمل الطريق، وكلما أمعنت السكة في خلوها من آدمي ضربت بيدها، وصرخت في وجهي :
- تقول قادم ؟!.. ابقي قابلني.. يا لطيف اللطف يارب. وتعود الي داخل الدار.
خفت الزغاريد، وشحت أغنيات الفرح. وكنت أري بنات الخالة معفرات الوجوه بالدقيق، ولطخات العجين، وقد اختفي حسنهن.
لبدتُ بجوار السور مثل ضرير، وحيدا كنت، أقصف فرع الشجرة وأعريه من أوراقه وأجلد به الأرض والجدران. هبطت من ابط التلة، وأنا أسير علي السكة وحيدا. كانت الدنيا الآن خالية، ورائحة المساء مكبوسة برائحة طين البحيرة، وبدايات الليل الذي يتنفس. فوق رأسي طائر يطلق صيحة مثل الصريخ، ويرف الهوا، بجناحيه الكبيرين. خفت من الصريخ، ومن ضرب الجناح. وعادت أحلام الليل تطفو علي روحي. بدا لي كأنني رأيت أبي علي الماء يمعن في غيابه، وصوت الجنية يأتيني مثل دعوة مؤجلة : عروسة يا عريس. وكنت أتدحرج علي السكة. بدت لي كل الأشياء مؤلمة، وأنا وحيد، غلام يتيم الأب وبلا حول. تذكرت نادر صاحبي، ابن المقاول الكبير الحاج "صفطي"، وسرايتهم في المدينة الشبيهة بالقصر، بحديقتها، وواجهتها مثل بيوت الخواجات، وتلك الصور الملونة المعلقة علي الجدران، والبيانو الأبيض وسط الصالة تعزف عليه أخته مريم التي تقابلني بمودة وتنظر في عيني بعينها الزرقاء مثل ماء البحيرة، وتأخذني في جنبها وتقول لي : ازيك يا علي، وازي مامتك، ويكون صوتها في رأسي مثل عزف البيانو أو ماء النبع تحت التوتة عند بيتنا خارج العمار. في غرفة نادر نلتقي كل نصف شهر ننجز مجلة الحائط للمدرسة، اكتبها وأحررها، وهو يساعدني في كتابة عناوينها بخطه الجميل، ووالده الحاج صفطي يقول له علي الباب : أنا مبسوط من صاحبك علي . ولد مجتهد ومستقيم، وعارف حاجات كتير. ويمضي في سيارته الكبيرة البيضاء.
قلت يومها لنادر :
- اختي ستتزوج.
فرح نادر، وفز يضرب صدره بيده الصغيرة :
- علي الزفة، ومزيكة تسبقها حتي بيت العريس.
شع وجهي بالفرح. فرح الفقراء، اليتامي، غير القادرين، وقلت له :
- صحيح يا نادر ؟.
- وعد، أنفذه برقبتي.
نادر رفيقي، ابن الأغنياء الذي لا يسعد الا في بيتنا. يأتي بالسيارة أيام الجمع.. هو صغير لكنه يقود سيارته، ويلوذ بنفوذ والده.. يركنها قرب الفناء في الخارج، وينزل منها، صائحا :
- يا أهل البيت. يا جماعة.
تخرج له أمي وتحتضنه. يعطيها ما يحمله لها ناظرا إلي المشهد بعين المحب. الخلاء والشجر والبحيرة، مالئا صدره بالهواء، أكون قد خرجت من حجرتي وحين أراه نتصارع في اختبار القوة، ضاحكين، وعندما أغلبه وأوقعه علي الأرض تصيح في أمي :
- خف عنه يا ولد، دا رهيّف.
- يهتف بي نادر :
- هيا الي البحيرة.
ندفع القارب الصغير علي الماء، يحدق للسماء العالية، الخالية من السحب.
يصيح مهللا:
- نفسي أعيش هنا.
- تعالي يا خويا. الدار ناقصة أخ.
يضحك ابن الأكابر، ونكون وصلنا الجزيرة الصغيرة. تلة من رمال وصخور قديمة من عمر أجداد اجدادي. نبحث عن اعشاش الطيور، وننصب الفخاخ للقطا، ونصيد اليمام

ببندقية نادر الصغير.
يقول:
- العشش بيت الطائر.
وأقول:
- الأعشاش تستدفئ بأهلها.
- الأعشاش تستدفئ بأهلها.
نعرف أماكن الأعشاش تحت الصخور. نري الأفراخ الصغيرة، تفتح أشداقها الشرهة. نحملها، ونقلبها، ونطعمها قطعا صغيرة من اللحم الذي أحضره نادر.
يفرد منديل الغدا، ، ونجلس في العلو البهيج. تكون أمي قد صرت لنا فطيرة ووضعت في الصحن الصغير جبنا قديما، وفولا أخضر. ويكون نادر قد احضر صندوقه الملئ بالطعام والكعك والحلوي. ونكون أشعلنا النار لنشوي ما صدناه من سمك البحيرة. نعود قبل أن يدهمنا الليل، وصوته غنائنا يصل حتي أمي التي تكون واقفة بلهفتها في انتظارنا.
أمشي علي السكة مثل غراب وحيد. نقطة في الخلاء. لم أعد أسمع إلا صوت الريح يأتي من البحيرة. الليل داخل ونادر لم يحضر بعد، الفئران تعبر السكة حذرة. وأنا أحدق ولا أري شيئا. وأختي ترتدي الآن فستان فرحها الأبيض وتنتظر. وكلما فكرت في أمي وهي تشوح بيدها في وجهي صارخة :
- ضحك عليك، وكسر بخاطر أختك.
ارفس أمامي الحجارة، ووحل البهيم. كنت مثل حيوان جريح في ملاذ غير آمن. أكرر النداء علي نفسي "كده يا نادر؟!" وحين لمحت عجوزاً يمشي وحده قادما تجاهي، سألته:
- ألم تر سيارة صغيرة زرقاء قادمة إلي هنا ؟.
- لا زرقاء ولا بيضاء.
- ألست قادماً من السكة الزراعية.
- آه
- يمكن تكون السيارة عطلانه ؟.
- يا ابني السكة خالية، تربط القرد فيها يقطع، وما فيها صريخ ابن يومين. ينكسر قلبي، وخفت أن أعود حيث أمي، وشعرت بزمن الخريف يضربني في عظمي. كنتُ أسيرا لعجزي، وقلة حيلتي، وأنا أردد بين نفسي "كده يا نادر!".
حين عدت كان البيت لا يبدد الوحشة فيه إلا مصباح بترولي صغير. رأيت أختي "نواره" تقف علي العتبة في ثوب زفافها الأبيض وبجوارها الماشطة تجز علي أسنانها. أختي جميلة وريانة مثل زهرة، لكنها مكسورة وحزينة. اقتربت منها فأخذتني الي جانب جسمها وهمستْ لي مبتسمة " ولا يهمك يا علي ليلة وتنقصي"وأمي شاحبة اللون، وقد امتلأت عينها بالدموع، تمسح انفها بطرف طرحتها وترفع يدها ناحية السماء، وتدعو علي نادر.
تركت أختي، ولذت بالجدار وقد وقعت في الفخ، والطريق للبلد طويل، والعريس ينتظر أختي في بيت عمه لتخرج من هناك الجلوة حيث دار منتصف البلد.
زعقت خالتي بصوت الذئبة الجريحة:
- الي متي ننتظر. الليل يمضي، ونحن نندب مثل الولايا ؟
أجابتها أمي :
- ما الذي نستطيع آن نفعله يا أختي ؟:
قالت الخالة بإصرار :
- نمشي حتي بيت العم في البلد، صممت ثم صاحت بعالي الصوت: قومي يا بت قومي يا مزة ما يفل الحديد إلا الحديد.
أخذتنا المفاجأة لحظة، لكننا سرعان ما انتظمنا ومضينا خارجين من الدار. أختي في الوسط بجانبها أمي والماشطة، وبنات الخالة في الإمام، وأنا بعيد في ذيل النساء، والطريق طويلة، وخالية من البشر، والنجوم عالية تخفق بحزن، وأنا آخر السائرين، والصمت يتكاثف علي الصمت وقد شح الغناء، وبدالأمر كأننا في جنازة، وأنا أسمع علي السكة صوت الخطوات كثيفا ومجللا بالحزن. أختي المقهورة في جلوتها، ترفع ذيل فستانها وتخب في الليل ناحية بيت عريسها. قطع الليل صوت طلق ناري، ودوي في خلا، الله صوت الطائر الليلي مفسحا لجناحيه مكانا في الريح.
لاحت أنوار البلد مثل كرات صغيرة من الضوء، وأفعمت أرواحنا رائحة حرق طواجن اللبن في الأفران، وكبسة وحل الحظائر، ودخان الكوانين.
وصلنا مشارف البلد عابرين جسر النهر، تقابلنا قوافل العائدين من الجامع الكبير شع نور الكهربا، ، واختفت الظلال.
تأملنا الخلق باستغراب !!
"عفيفي" صاحب محل الكهربا في دكانه يرمق الزفة بعينه الكليلة ويسأل :
- ما هذا ؟
- زفة
- زفة ولا جنازة؟
وعاد يسأل
- زفة من هذه ؟
وصفق بيديه متعجبا، وعندما أجابوه:
- زفة نواره بنت هنية.
أكمل هو :
- بنت حمزة النبراوي.. الله يرحم أبوك... كان رجل طيب، عيب البلد تكون هذه زفة بنته.
وقفز علي البنك متصديا للزفة.
- وقفي يا بت. وقف يا له
لحظات وجهز أربعة مصابيح كبيرة، أضاءها بالنور الذي شع علي الساحة فضوت بنور ربها، وجعلت الساحة مثل النهار. حملها الرجال وساروا أمام النسوة. دوت زغرودة مجلجلة مثل الجرس، أعقبتها حزمة من الزغاريد الراقصة، وابتدأ الغناء ينفجر في المكان، ساخنا ومؤاخيا مثل لحن منتظم وجميل. خرج "مسعود" الطبال من داره لما عرف الحكاية، وانه فرح بنت الناس الطيبين نواره، هؤلاء الذين علي فيض الكريم.عاد ومعه صبيانه وطبلته ورقه ومزماره وكمنجة قديمة يعزف عليها صبي تعلم الغناء في البندر.


.
كبس أهل البلد علي الزفة بالعشرات، ولم يعد الليل يسع صوت الغناء، وصوت المزمار يؤاخي صوت الرق والطبلة في إيقاعات منتظمة جعلت البنات البكاري يحزمن وسطهن ويرقصن أبدانهن في بهجة الفرح أمام الجلوة.
رأيت أختي يشع من وجهها السرور وهي تنظر تجاهي ضاحكة وأنا غير قادر علي مقاومة دموعي. كانت امي قد تركت العنان لنفسها ونزلت الي الحلقة ترقص وتغني بصوت مليح لم أدرك حلاوته إلا الآن، والزفة تخترق شارع الريحان في اتجاه بيت العم، وانا وقد تسلقت السور العالي أنظر إلي المشهد، وأنتظر من الله الذي يجلس علي عرشه، في علاه، أن يركب لي جناحين، لأطير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى