عزمي العفّاس - بصيص أرض

مِنْ فوقِ شفاهِ الحُزْنِ ألثمُ قطراتٍ من الملحِ كي أسقي بها توهّجَ فرح يؤجّلُ موعدهُ من جديد. هكذا يكونُ المستقبلُ والقادمُ هو الأملُ القادمُ في أن تتحرّكَ براكينُ الأشقياءِ وتُعلنَ لعنها للسّماء، وتنتصرُ للأرضِ شبرا شبرا. يهوي الفلّاحُ على كتفِهِ بالأرضِ ورجلهُ مخضّبة بالتّراب. إنّ السّير تحتَ الشّمسِ وفوقَ الظلّ صعب للغاية: ربّما سرقَ أحدهم الظلّ فلا يجدُ المسكينُ على من يسندُ طولَ قامتِهِ وقصرَ حُلمهِ.
الأرضُ ملكُ الجميع، ما داسَ أحدهم موضعا إلّا سمّاهُ باسمهِ ونام. والأشجارُ تحفظ أسماءَ زائريها من الزّوال: خدشَ أحدهم موضعا في جسدي –ولو كذبا- فحمى ذاكرته من الهروب. والذّاكرةُ تحكمُ الكتابةَ: إنّ التّفاصيلَ هي محرّكُ الصّورِ، ولا تأتي إلّا من ذاكرة الأرض. ربّما فقدانِ الذّاكرة يساوي فقدان القدرةِ على الكتابة، وربّما الكتابة في حدّ ذاتها هذيان الذّاكرة، كي تلقي ممّا صارَ فوقَ طاقتها: كلّ ما نخفيه من تجارب وأحاسيسَ فينا، يسكبهُ اللّيلُ في نشيد الأرض. وربّما لو صارتِ الكتابةُ حديثا لفقدت معناها. ترتفعُ صرخاتُ المياهِ الّتي تنسابُ في جداولَ تفيضُ من جانبيها كي تروي السّنابلَ العطشى للحياة: إيزيس تبكي زوجها، وأشلاءُ أوزوريس تنبعثُ من بين ضفافِ النّهرِ. وتفيضُ دموعُ الفلّاحينَ حين يستجدونَ الأرضَ كي تنبتُ وإلّا كان عليهم أن يدفعوا أرواحهم ثمنا للخراج: من أينَ لنا أن ندفع، ولمَ نحنُ ندفع، كانَ يكفي ملح عرقنا كي تصبحَ الأرضُ خصبة، وكان يكفي أن نُمسكَ عنِ النّومِ ونحرس القمحَ من رصاصات طائشة تأتي على المحاصيلِ ونحنُ نيام، هكذا تعوّدنا على جُبنِ العدوّ. والأرضُ تحمي من يزرعهَا بأن تحصدَ ثمارها من قبل أن تُثمرَ، وبأنْ تبكيهِ كي تسقي حقلهُ المُشبعَ بالدّعاءِ لها. تستقبلُ حبيباتُ التّرابِ خطواتِ زارعها بكلّ حنوّ: هكذا تشعرُ بأنّ أحدهم يضمّها إلى صدره. ربّما استأنست بعاشقينِ يطوفانِ بشجرة سمّياها باسميهما، وجعلاها هيكلا للوجود. وفلّاحٌ يراقب المشهدَ من بعيد: إنّ صلاةً للحبّ لن تفسدَ رونقَ الحقلِ، ومتى احتاجَ أحدهم إلى الاحتماءِ من عدّوه/عدوّي لوجدَ الشّجرةُ تضمّ جيشا بأكمله.
أسيرُ أنا متّكأ على عكّازي المتهالك من فرط ما اتّكأتُ عليهِ، وأنتظرُ شروقَ القمرِ فأنظرُ للفلّاحِ من بعيد: هُوَ أيضا يحلمُ بحياةٍ أفضل، كأن يتزوّج حبيبته/الأرض، وهُوَ أيضا يحلمُ بحلمٍ آخر، كأن يحيا دونَ تهديد مستمرّ لغُزاةِ محاصيلهِ. ولا شيءَ آخر فوقَنا سوى السّماء تلتحفُ نفسهَا وتبكي أحلامنَا: هي أيضا مثلنا تحلم، تحلم بأن يحرّكَ أحدهم غيومها كي تبكي الحُقولَ، أو بشجرة وارفة الظّلال تحمي سحبها من الشّمسِ. والأحلامُ تُرسلُ على جناحِ السّرعةِ لمكانِ تجمّعِ المياهِ، فتخرجُ من هُناكَ جيشا عرمرما، لا فرادى، كي تسقي كلّ الأحلام. ولا حُلمَ معلّق في السّماء، ولا حلم أقصرُ من حياةٍ: الحُلمُ سلسلةٌ من بقايا آدمَ حينَ كانَ يحُلمُ، مثلنا، بالعودةِ نحوَ الفردوسِ، حينَ كان يحلمُ بالبحثِ عن الرّاحة. وأنا لا أبحثُ عن ممشى من الأزهار: إذا ما نجحتِ المُحاولةُ إلّا بحثتُ عن أخرى فاشلة، كي أبقى على قيد الأحلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى