إبراهيم الحسيني - ليل.. قصة قصيرة

وترفرف الراية السوداء .
ضباب كثيف , وهواء مندى , الليل جبل , القاهرة نائمة ,نوافذ تبدو في العتمة كفتحات جحور , حراس الأبراج يتبادلون صياحا :
- خمسة تمام .
- ستة تمام .
كلبان بوليسيان أسودان يربضان أمام بوابة حديدية ضخمة ,يقف خلفيهما , جنديان , يمسكان سلستين , تنتهيان عند طوقين من جلد سميك عند رقبتي الكلبين .رجل وحيد في مقهاه , يغسل الكبايات والفناجين , يغير ماء الشيش . بخار ماء يتسرب من حواف غطاء براد ضخم , يمتلئ بمياه تسخن , تحت نار " بوتاجاز " أعور.أكشاك وحوانيت مغلقة . شيخ معمم ينحدر صوب مسجد الرفاعي , يفتح بابا عتيقا بهتت زخارفه , يخلع حذاءه , يرفعه تحت إبطه ,ويلج , تبتلعه ظلمة كثيفة , يتنحنح , يسعل , ويسمع صدى سعاله , يضئ نورا شاحبا , ثم يتوجه إلى باب خلفي ضيق , يصعد بتؤدة سلما حلزونيا , يقوده إلى المئذنة .سور عالي من حجارة جبلية , يمتد فوقه أسلاك شائكة وزجاج مهشم يومض . فئران وعرس , قطط وسحال . بغل يفترش الأرض على أحد جانبيه , يلوى عنقه للخلف , حوله بقايا برسيم وتبن وفول " مدشوش " . صبيان أسمالهما بالية , أرجلهما متسخة ,يتكوران متداخلين , يغطان في " خرج " معلق أسفل كارو متربة ,يتنفسان بهدوء وعمق , و ذراعيهما وسادتان .
امرأة وحيدة تجلس " مفرشحة " على رصيف " درب سعادة " , ذات سمنة خفيفة , سكرانة منهكة , تسند مؤخرة رأسها على جدار بيت مهجور ومتداع , ترتفع " جيبتها " عن فخذين متهدلين مكدومين . لم تتخلف ليلة منذ سنوات , لا يعلم أحد مداها , لا يعوقها مرض أو سفر , برد أو مطر, بعد الثالثة , وقبل الفجر تأتى , يشم النزلاء حلف الأسوار, تتسلل إليهم رائحتها , تصلهم حشرجة أنفاسها, يحسون ملمس خطوها, ويتناوب اليقظة منهم في الدور الثالث القفز على البطاطين إلى النوافذ المسيخة , يقرفصون كالقرود, يتأملون الفخذين وفرجة الثديين بشوق واشتهاء , يلقون إليها أرقام تليفونات ورسائل تلغرافية , تجرى , تلاحق الرسائل , يمينا وشمالا , تنحني لتلتقطها , وتدسها تحت"السوتيان",يداهمها حراس الأسوار, يحيطونها, ويخطف أحدهم حقيبتها :
- عملتي بكام الليلة ؟
ثم يخرج محتوياتها : مناديل ورقية, سجائر أجنبية, مراية, ولاعة, مزيل للعرق, مكياجات حمراء,صفراء,بنية, بنفسجية, برتقالية , وصورة فوتوغرافية يتجاهلونها .
- زباينك دايما مأشفرين
يقتسمون ما لم تخفه من جنيهاتها, وهم يتحرشون بها من أمام ومن خلف, هازئين, يمدون أياديهم إلى نهديها ومؤخرتها وبين فخذيها,تدفعهم بعصبية :
- تعبانة يا ولاد الكلب .
وتتهالك على الرصيف , تشعل سيجارة من سيجارة .
وعند أول ضوء, تتساند على بعضها, وتنهض, تنفض التراب عن مؤخرتها, تضع كفيها مفتوحين حول فمها, فيخرج الزفير مدخنا , وبكل مالها من قوة وعزم, تنادى :
- يا عزيز .. يا عزيز ..
لا أحد يجيب .
تجرجر قدميها المتورمتين بتثاقل وإهمال, وهى تتلفت وراءها :
- يمكن .
وتفض الرسائل المطوية , رسالة تلو الأخرى .
" جلال مترحل وادي النطرون. سامى رايح طنطا. رفعت راجع الحضرة. جرجس في مديرية التحرير. عاطف ودوه المرج. و شاكر في طره "
وما تزال تنفض التراب عن مؤخرتها. والرجل الوحيد في مقهاه , يرص الكراسي , يمسح المناضد , وصمت مطبق يخدشه عواء الكلاب :
عوووو ... عووو ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى