صفاء ميداسي - باب الشطحات/ليليث

بحثت بين تلابيب الذات عن ترياق اليأس من رحماه ، فوجدت مضغة اللامبالاة في قد صارت علقة السكينة ثم جنين الأناة . فنسيته حتى لم أعد أرجو تحنانا منه و لا لطفا . و مضيت قدما نحو الحياة أحتسي علقمها في لذة لا متناهية، و كأن سكرات الموت تعتريني بعد كل رشفة . ثم أسكرتني لذة الحنظل حتى قبّلت نفسي نفسها في مرآة الزؤام ، فخرج طفل سرمدي يحبو على ضفاف برزخ الحياة
والممات . و قد قضيت عمرا أحبو معه في دهاليز ضيقة و لم أستقم في وقفتي كي لا اكبر فينقسم ظهري و يرتدّ قنوطي حتى رأيته ذات يوم . كان هناك في الزحام ، يقف قبالة عجوز لا راع لها تضمر الشرّ كلما ابتسمت، و تحيك المكائد كلما بكت. لم يرني و لم يلتفت ناحيتي و لو لبرهة. فوقفت انفض عني ريش الطفولة حتى بانت أنوثتي للعالمين ، و قد مر الزمان علي من دون أن أشعر ببروز مفاتني.
لقد رحل عني صاحب السعاة من دون أن يعلمني كيف أكبر و كيف أتصالح مع الحياة بعد تخليه عن مجدي ، و ها أنا أترك برزخي الذي شيدته لأستقيم في مواجهة الأيام وحيدة بلا معين و لا أنيس.
لم أره بعدها و لم أسمع عنه شيئا يذكرني به حتى دخل ذات يوم المزرعة . تشاغلت عنه و لم أحسب له حسابا و قد كنت في دواخلي ارقص رقص المتصوف في حضرة الرب. أما هو فقد كان مهتما بطريقة دخوله على الحاضرين مفكرا في كيفية استقطابهم و استعطافهم فبدا لي شديد النرجسية عديم المسؤولية بغيضا حقودا معقدا. لمّا ألقى نظرته الاولى علي ، لم يستطع تحويلها عني، فعاد يتفحصني في صمت وكأنه مسحور . و قد حرصت أنا على المبالغة في التشاغل ببعض الأمور فلم أبادله النظرات.
لماذا رمقني بهذا الشكل ؟ أوجد في ما يشبه الذئاب التي يصطادها للنبلاء ؟ فقد أخبرني عمي محسن أنه يخرج مع الرجل القصير الأحمق فيصطاد له ما شاء من الهقلس و الأوس . أنا أبغض ذلك القصير الأوقص و أكره من يصطاد الحيوانات المفترسة، فقد جعلت الأرانب و الطيور للقنص و الغذاء ، اما الوحوش فهي ربة الغابة أترك لها قرابين الدماء حتى أطرب بعويلها في سواد الليل و جنونه . فأرقص على أنغام العواء و الزمجرة و أتمايل حتى أبلغ نشوة الثمول و هيجان الحياة التي تملؤها و تملؤني.
علمت أن الرجل الطويل صاحب النظرة العميقة سيعمل معنا في المزرعة لأن الأبله في حاجة اليه أكثر من ذي قبل خاصة مع تكاثر الذئاب و الثعالب في المنطقة.
تقول العجوز سندة إن الوحوش تأتمر بأمري و إن مجيئها بكثرة الى هذه الأرض إنما هو من عملي و خبائثي . لم أكترث لجهلها و ترهاتها و كانت كلما ضايقتني بقول أو فعل أستحضر جنين الأناة و طيف الطفل الذي في كينونتي فترتاح نفسي و يذهب غمي. راقبتني مرة وأنا أغتسل عارية في المياه الحارة فأشارت الى ثدييّ الممتلئين بماء الأنوثة زاعمة أنني ليليث ، الشيطانة الأسطورية المغرية ، و أني حامل بطفل الخراب . فسألتها إن كانت قد صادفت ليليث قبل ذلك فرّدت أنها تعرف الشر أنىّ تره. ثم جعلت تتلو كل ليلة تعاويذ و أذكارا مبهمة تحتمي بها من مكري . تزعجني تلك الصلوات التي تكررها فأنا لا أحب المتدينين المغالين في مشاعرهم و أرى فيهم رياء و مكرا ، فأعمالهم شنيعة و خوفهم من اليقين سراب في صحراء ، فالموت و الحياة و النور و الظلمات ليست أضدادا من ثنائية الخير و الشر إنما يعطي كلّ معنى للآخر و يجعله ذا قيمة . و قد لاح لي أن العجوز تطلع الصياد على شيء من عقائدها الغريبة و طقوسها المزعجة فهو غالبا ما ينظر إلي بعين حذرة متوجسة بيد أن فيها شيئا من الانجذاب و الإعجاب و الواضح أنه يكره هذا التضارب و يحاول جاهدا إظهار عدم الاكتراث . فأساعده على ذلك بتركه و شأنه .
جاءني في أحد الأيام و طلب مني أن أعيره كتابا، فأنا الوحيدة التي كنت أهتم بالقراءة في هذه المزرعة المقيتة . فأعرته كتاب رسالة الغفران للمعري حتى يجول بين الجنة و النار مثلما فعلت في قديم الزمان . فما كان منه الا أن أعاده في صبيحة اليوم التالي و كان قد قرأ كل ما جاء فيه. لم يشأ مناقشة الكتاب و اكتفى بالقول إنه شيق لكنه لا يحبذ أن يطوف مثل بن القارح بين عوالم خرافية يتشفى فيها بعذاب الخطّائين . ثم طلب كتابا آخر فقدمت له ديوان أبي نواس حتى يتسنى له دخول بوتقة الخمريات و تذوّق أجود أنواعها ، فأحظره في اليوم التالي قائلا إن لذته هو ليست كلذة أبي نواس اذ
لا تكون مع الولدان بل في قتل الوحوش الضارية .
ثم طلب مني أن أعيره هذه الرواية التي أكتب فرفضت بحجة أني لم أتتم سردها بعد ، فقال إنها لن تنتهي إلا إذا جاءت الملائكة الثلاثة و أعادتني الى آدم و جنة يهوه . فقتلته ألف مرة و مرة قبل أن ينطق أسماءها . ثم انبعثت من جسده الفتي رائحة الكبريت الزكية ، فخارت قواي و غلب عليّ الوجد و استرسلت في كلماتي الرعوانية و كانت شطحاتي فوق رأس صياد الوحوش تنقذ أوابدي من سهامه و تبعث الطفل السرمدي للحياة خارج البرزخ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى