عدنان كنفاني - في 15 أيار من كل عام هكذا نحتفل.. قصة قصيرة

ثمة ما يدعوه اليومَ إلى التأمل بحزن أكثر من أيّ يوم مضى.
أدار محركَ سيارته، وعاد مسرعاً إلى داخل البيت، أحسّ رغبةً في احتساء كوبٍ آخر من الشاي قبل أن ينطلق إلى عمله.
جلس باسترخاء وراء مقود السيارة، عبثت أصابعه للحظات في مفتاح المذياع، ولم يلبث أن تحوّل عن تلك الرغبة، وانطلق يجوب الشوارع، يحاول بخبث انتقاء الأشخاص الذين ينقلهم في سيارته.
يراقب الناس بعين خبيرة، هذا يهودي شرقي، وهذا يهودي بولوني، وذلك إفريقي، والآخر من بلاد الضباب، يعرف عن يقين بأن كلّ واحد منهم يحمل تقاطيع مختلفة.
أيقظته أم العبد باكراً على غير العادة، وسوّت له الشاي، وقبل أن يقذفَ استياءَهُ في وجهها، أشارت إلى الروزنامة المعلقة على الجدار المقابل:
15 أيــار..!
أردفت:
ـ فجر، هو الذي أيقظ الجميع باكراً، وسنذهب إلى هناك، عليك أن تلحق بنا قبل غياب الشمس،
كان صغيراً بعمر فجر في ذلك الوقت.
منذ أكثر من خمسين سنة، في أسرة من أربعة أشخاص لا غير، واستطاع والده أن يصمد، ويبقى على قيد الحياة مع أسرته حتى بعد دخول اليهود إلى قريتهم القريبة من مدينة عكا واحتلالها.
أجبروه بعد حين على الانتقال إلى مكان آخر في ركن معزول خصّصَ لإقامة العرب الذين بقوا، ثم نقلوهم إلى بيوت صغيرة بعيدة عن المحيط المحتلّ.
جرفوا بيوتهم، وأقاموا مكانها مستوطنة جديدة.
خرج بسيارته على مهل من الزقاق الأخير، وانطلق عبر الشوارع الفسيحة، يراقب بعينين مستكينتين زرقة السماء الصافية، ويستقبل نسمات الصباح المنعشة.
كأنه يخرجُ من الحفرة العميقةِ التي حفرها والده في فناء الفسحة الخلفية لدارهم الكبيرة.
غطاها بأعمدة خشبية ثخينة، وصفائح من تنك وحديد، فرش فوقها أغصاناً جافّة، وأهال عليها التراب، زودّها بالمؤن والماء والفراش.
أمضوا فيها كل الأوقات التي كانت تشتد خلالها الهجمات على القرية.
كل شيء حوله جميل وبّراق، الشوارع تضّج بالزينة والرايات، والأعلام الملونة بالأبيض والأزرق.
رسم ابتسامة ساخرة على شفتيه، وهو يراقب وجوه الناس المستبشرة.
تغمز أم العبد في كل مناسبة أنه ورث عن والده معظم الصفات في الشكل والأخلاق، أبرزها على الإطلاق.. العناد.
فقد رفض كل الأعمال المريحة والمسّتقرة التي عرضت عليه، واختار أن يكون سائق سيارة أجرة، مدّعياً، أن هذا العمل دون سواه يجعله في كل لحظة يحس بالانطلاق، ويؤسس له معرفةً أكبر، وقدرةً أكثر على قراءة وجوه الناس، والتمييز بينها.
ـ الله يكسر ظهورهم.!
تمتم، وهو يتوقف أمام أول رجل أشار له.
دلف الرجل سريعاً إلى داخل السيارة، تبادلا ابتسامة قصيرة.
ـ أنت عربي، عربي عربي.!
قال الرجل، وهو يغلق باب السيارة.
ـ وأنت روسي، يهودي روسي.!
أجاب أبو العبد ببرود.
ـ كيف عرفت.؟
ـ أين تود الذهاب.
قال أبو العبد بنزق..
ـ إلى الاحتفال.
أجاب الرجل بصلف. ثم أردف بلهجة متحدّية:
ـ يمكنك الاحتفال معنا.!
انتفض أبو العبد، كأنه فوجئ بالدعوة، لكنه تمالك، وأردف بسخرية:
ـ أما أنا فأحتفل على طريقتي.
ألقى نظرة صارمة عبر المرآة، وتمتم من بين أسنانه:
ـ أدعوك للاحتفال معي.
صمت الرجل طويلاً، ثم قذف بالسؤال الذي بدا أنه دار في رأسه أكثر من مرة:
ـ وهل تحتفلون حقاً.؟
هزّ أبو العبد رأسه بالإيجاب.
ـ وهل تدعوني حقاً للاحتفال معك.؟
ـ نعم، ولم لا.؟
على المرتفع الصخري الذي يطلُّ على قريته القديمة، اجتمعت أسرته الكبيرة.
يتقدمهم حفيدُه فجر، يرتدي قميصاً ألوانه زاهية، يشير إلى أماكن متعددة ويتحدث بحماسة.
التقط الرجل "الذي لم ينزل من السيارة"، وهو يتابع نقلات الإصبع النحيل، كلمات يطلقها فجر بثبات، كأنها رشقات رصاص تنهمر من فوهة مدفع رشاش:
ـ هناك قبر أبو العبد، جدّنا الكبير، هناك تحت البيت الخشبي المغطى بالقرميد، بيتنا، هناك إلى جانب الحديقة من الجهة الغربية، بيت عمي حسين، هناك تحت البيت المطلي باللون الأصفر، الساحة التي حفر فيها جّدنا الكبير الملجأ، هناك، وهناك، و......
أغلق الرجل النافذة بسرعة وعصبية.
قال أبو العبد بحزم:
ـ هكذا نحتفل، كل سنة..
ثم تمتم بحزن وبصوت خافت:
ـ كل سنة.. الله يكسر ظهوركم.!
التفت بكامل جسمه إلى الرجل الجالس في المقعد الخلفي للسيارة، رأى في عينيه نظرة واجمة، وحائرة، سأله بصوت مرتفع، وبنبرة ساخرة:
ـ حسناً، أين تودّ الذهاب.؟


(ع.ك)



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى