زينة المدوري - بيت الفئران.. قصة قصيرة

الخميس هو اليوم الأسود ، أتعس أيام الأسبوع . الكل في حالة استنفار، وجوه شاحبة وقلوب مرتجفة كيف لا وهو يوم الconjugaison فيه نلتقي بسيدي الغماري من الساعة الواحدة ظهرا الى الساعة الثالثة بعد الزوال. ساعتان تختزلان عدد ساعات الأسبوع بأكملها.
الرعب يتمكن منا قبل أن يدق الجرس فتجدنا نستعرض معا الأفعال والمتممات ، فالويل لمن يخطىء ؛ يصُبّ سيدي جام غضبه عليه خاصة إذا نفذت علبة السجائر قبل يوم السبت، موعد قدوم ساعي البريد من المدينة على الحصان الأحمر محملا برسالة لسيدي الغماري وسْتيكهْ دخان ورِزمه سْميد.
نصطف أمام القسم كالجنود نمدّ أيدينا فيمر سيدي بيده #مسعودة# يتفقد أظافرنا ورؤوسنا . ندخل القسم ويبدأ سيدي الدرس بتفقد البلومَه والرّيشه السوري ثم يدعوني لتوزيع الكراسات لأني كنت اكثر أصدقائي إتقانا للغة الفرنسية ، فأنا أنحدر من عائلة شبه برجوازية آنذاك ، والدي يعمل بالقطر الليبي الشقيق وخالي بفرنسا يزورنا كل صيف مع زوجته القاورية وأبنائه الثلاثة فكنت ألقط منهم كلمة من هنا وأخرى من هناك وأشاركهم اللعب إلى أن أصبحت نتّكرم بـــ" الفرغسي" فيستنجد بي الكل لشرح الكلمات الصعبة.
سيدي الغماري كما يقول" جابتني الخبزة من زكّ الدنيا" ، ليكون مدرسا ومديرا في نفس الوقت في قريتنا في أقصى الشمال. كان أكثر شيء يخيفني هو كراس التناوب يوم مشؤوم إذا كان دوري و سكبت قطرة حبر أو حِدت عن السطر أو تجاوزت مقاييس الحروف فلا مناص من طْريحه مْشَرّحَه مْلّحه يليها حبس انفرادي بغرفة الفئران وهي دُخشيشه أسفل السلالم أين يسكن سيدي. جعل لها بابا من القصدير وشْروليه. كل الذين عوقبوا وحبسوا نصف ساعة بها عادوا كأنهم أخرجوا من تابوت تعلو وجوهم زرقة ورعشة حتى أن فيهم من يتبول من الخوف.
زيادة عن العقاب الذي يتفنّن فيه ، عادي ان يعلّق صديق صديقه إذ يمسك برجليه لينال نصيبه من الفلقة وإذا أسقط رجل صديقه يضربه على مؤخرته.
سيدي الغماري يقول كلاما له معجم خاص ومُبهم احيانا: ( عْمِزْ يا كبّولْ لٍمّي فْراكيكْ يا ڨحبه امسخ خْنانتك يا مُغطْ )
مرة كان درسنا ( comment conjuguer le verbe faire au subjectif présent ) في غفلة منه لكزت صديقي بمرفقي لأنه قال لي عندي بُولَهْ ، فتفطن لي سيدي الغماري فصاح في وجهي :
- ( تعالي جاي) conjugue moi le verbe faire au subjectif présent
لا اعرف كيف قلت له:
- je fassasse monsieur
ولم أدر كيف صفعني بكفين فقدت على إثرهما الاتجاه ، نادى الحارس عم الصادق ليحبسني في بيت الفئران . ساقني الحارس إليها ثم أغلق علي الباب.
كانت أول مرة أدخل بيت الفئران السجن الإنفرادي للمشاغبين والمخلين بالواجب الدراسي ، فهو عبارة عن مستودع للخردة رائحته كريهة فيها شباك صغير يكفي أن تطل منه برأسك أدوات هندسية مكسرة أدوات لقيس السعات وعالم من القصص والكتب القديمة بدأت أتفحصها ثم تجرأت أن أفتح كتابا صغيرا وبدأت أقرأه يا الله ما أجمل كلماته ثم أخذت قصة أخرى عدد صفحاتها عشرة أتيت عليها وانهيتها لآخذ كتاب شعر قرأت أول قصيدة به :
(يا عاذر لامرىء قد هام في الحضر = وعاذلا لمحب البدو والقفر )
كم راقني ذاك الشعر بل المكان في حد ذاته ' كم جميل ان تكون في مكان معزول وحدك مع الكتب لا شيء يشوش تفكيرك أو يخترق عزلتك وحدك ملك الكتب تاكلها اكلا تلتهم ما لذ وطاب من الشعر والنثر بل عجبت لكل الذين حبسوا هنا كيف لم يستمتعوا بالقراءة!؟، أرجعت الكتاب لمكانه فوقعت منه ورقة مطوية فتحتها خط عليها ( إذا خلا لك الجو فبيضي وفرّخي ) وضعتها بجيب ميدعتي ونظرت إلى كرتونة فيها بعض الملابس وأوحت لي نفسي الأمارة بالخير أن أفتحها اعترضتني محرمة خالتي السيدة طباخة الكونتينه وهي التي تسهر على تنظيف بيت سيدي المدير وغسل ثيابه وأحيانا تطبخ له.
خالتي السيدة مات زوجها سنة الفيضانات جرفته مياه الواد ي وهو على ظهر حماره.
نظرت أسفلها فوجدت حمالة صدر حمراء اللون وشورط بالريكامو وميدعه زرقاء عنّت لي نفسي أن أجرب حمالة الصدر ، ولكن كيف وأنا مازلت لم ينبت لي صدر ؟
كورت أوراقا ووضعتها ليصبح صدري بحجم صدر خالتي السيدة، لحظات وجاء عم الصادق يفتح الباب فصاح في وجهي:
- (نهارك مْشوم اليوم)
مسكني من يدي وأخذني إلى سيدي الغماري بعد انتهاء فترة عقوبتي وحبسي الإنفرادي وما إن رآني حتى انفجر ضاحكا وتبعه أصحابي بالضحك ، كانت أول مرة أرى فيها سيدي الغماري يضحك ، وأول مرة أرى له ناب ذهب ، وأول مرة يجلسني على ركبته ويسألني:
- "بجاه ربي منين طلعتيلي هالعام الأحرف؟"
قلت :
- له سيدي علاش أنا ما عنديش بْزازل كخالتي السيدة
فدخل الجميع في نوبة من الضحك بينما عدت إلى مكاني وأنا أتساءل ما الذي أتي بمحرمة خالتي السيدة وحمالة صدرها إلى بيت الفئران!؟ أيعقل أنها ايضا حين تخطىء بالطبيخ أو الغسيل تعاقب و تقضي عقوبتها مثلنا ببيت الفئران!؟.

زينة المدوري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى