جعفر الديري - رجل مريض سيء الحظ.. قصة قصيرة

كُنَّا نلعب بالكرة، حين أقبلت زوجة أبيه في عجلة مِن أمرها. أمسكتْ ذراعه بشدَّة، وشتمته قائلة:
- ألم أنهك عن اللعب مع هؤلاء؟!.

ثم دفعته أمامها، وقد دمعت عيناه حرجا.

لم أحاول ولا أيُّ مِنّ الأصدقاء، التحدُّث معه بشأن ما جرى. كنَّا نودُّه كثيرا، ونأنس بصحبته، عدا عن كونه يتيم الأم، نخشى على مشاعره وأحاسيسه. والحقُّ أنَّه كان صبيَّا مميَّزا، فعلاوة على ابتسامته الرائعة، كان أشدَّنا ذكاءا وحفظً للدروس. أمَّا زوجة أبيه فكانت معروفة بالشراسة وسلاطة اللسان، يخشى سطوتها الجميع، وأوَّلهم زوجها الذي وقع ضحية لاختياره السيء.

لكنَّ الذي حدث أنَّ أحمد تغيَّر بشكل ملحوظ. صار يتجنّب الجلوس معنا، داخل المدرسة، وخارجها أيضا. حتَّى اذا انتقلنا إلى المرحلة الثانوية، انقطع عنَّا تماما. حتى مستواه التحصيلي انتهى إلى الرسوب، فبينما انتقلت أنا وجميع الأصدقاء إلى الجامعة، فشل في الدراسة، وطرد من المدرسة، فلم يجد أمامه سوى امتهان صيد الأسماك.

في الجامعة سمعت الكثير عنه، وكلُّها أمور لا تشرِّف أحدا. لقد تشاجر مع أبيه، وترك البيت، وتصاحب ومجموعة من أصدقاء السوء، قضَوا على كلَّ خلق حميد فيه، وعلَّموه كره الناس وبغضهم واحتقارهم.

وليس سوى بضع سنوات، صار بعدها أحمد من هؤلاء الذين لا يذكر اسمهم إلا بأبشع النعوت، بعد أن اجتهدت زوجة أبيه وإخوته منها، في النيل منه، ولم يتركوا صفة سيئة لم يلصقوها به، وقد حذا أبوه حذوهم، رغم أنَّه كان ولده البكر.

والواقع أنَّني نسيت أحمد بعد ذلك تماما، فلم أعد أذكر عنه شيئا، بعد أنَّ أصبحت زوجا وأبا، وتوظَّفت مشرفا اجتماعيا في إحدى المدارس الابتدائية، إلى جانب انشغالي بالعمل التطوُّعي. حتى جاء يوم حزنت فيه أشدَّ الحزن، فبينما كنت مشغولا في عملي، سمعت طرقا خفيفا على الباب، وحين رفعت رأسي عن أوراقي، شاهدت رجلا نحيفا، جميل الوجه، رغم شحوبه. يرتدي ثوبا أبيضا، ويضع على رأسه غترة دون عناية، يستأذن في الدخول.

وقفت مُرحِّبا به، فتقدَّم منِّي بخطوات بطيئة، وهو يتمايل يمنة ويسرة كعود القصب. وأدركت أنَّه تعرَّض لعلاجٍ قاسٍ، َأخذ منه حيويته وقوة جسمه ونضارة وجهه. وحين مدَّ يده بالسلام، استجبت لرغبته في العناق.

كان هذا هو أحمد، زميل الصبا. حدَّثني عمَّا جرى له. عن زوجة أبيه التي بالغت في إذلاله، فكانت تضربه أمام إخوته دون أن يحرِّك أبوه ساكنا. وكيف أنَّه هرب من جحيمها، إلى جحيم أشد حين عاش في كنف مجموعة من غلاظ القلوب، ازداد بهم كرها للناس، وافتعالا للمشاكل والمشاجرات، معذِّبا نفسه قبل غيره. ثمَّ قرَّرَ أن يبدأ حياة جديدة، فانتقل للعمل في إحدى الدول الشقيقة. وتزوَّج وأنجب هناك. إلاَّ أن القدر نَفَس عليه سعادته، فاختطف منه ابنته ابنة العامين. ولم تلبث زوجه أن طلبت الطلاق، فرجع إلى بلده خائبا، ولم يجد أمامه سوى مهنة الصيد مرة أخرى.

وكان المرض قدْ حَلَّ بآلامه وجرعاته الرهيبة، فكافحه بشجاعة حتَّى شُفي. غيرَّ أنه عاوده قبل مدَّة. وهذه المرَّة وحشا كاسرا، أيقن معه أنَّه لا طاقة له على منازلته.

ثمَّ سكت قبل يتابع بتأثر:

- لا أعلم لماذا طرأت على بالي وبقيَّة أصدقاء الصبا، ربّما لأنني عشت معكم أسعد أيام حياتي.

وواصل ولساني عاجزا عن الكلام:
- إن كلُّ ما أرجوه أن تغفروا لي جميعا ما تسببت به لكم من حزن وتعاسة.

ثم قال قبل أن ينصرف مودِّعا، وهو يغالب دموعه:
- أرجو أن تبلِّغ بقية الأصحاب اعتذاري، وتطلب منهم إبراء ذمتي.

وخرج فمضيت معه حتى باب المدرسة، ووقفت أنظر إليه حتى غاب عن ناظريَّ.

ومضت أسابيع معدودة، حين قرأت خبر نعيه. وحرصت على حضور جنازته. وهناك وجدت ليس فقط مَن كانوا قريبين منه، بل جميع من عرفه في صباه.

الثلاثاء 30 / 10 / 2019

جعفر الديري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى