صفاء ميداسي - الملحمة.. قصة قصيرة

عدت للتوغل بين تلابيب الذات بحثا عن بلسم جرح لا أحس ألمه . فعادت مضغة اللامبالاة في لتكون علقة الدعة و جنين الحصافة . و نسيت ما كنت أبحث عنه حتى كرهت الاهتداء إليه . و مضيت قدما أحتسي علقما لذيذا آخر أسكرني حتى قبّلت نفسي نفسها ثانية في مرآة اليقين . فخرج منها محارب أزلي شرس لا يشق له غبار . له لحية سوداء معسعسة تغطي وجها مليحا فلا تبدو منه إلا عين لهلقس و أخرى لأوس . ها هو صياد الوحوش المقتول ألف مرة و مرة في الارواية التي أكتب يظهر أخرس . لا تستهويني اللحى فما قبلت فاه بل جبت في صحبته ضفاف برزخ الحياة و الممات.
و قضينا دهرا في كرّ و فرّ و لم انزع عنه خوذة الانتقام كي لا تنفلت أنوثتي و تبدو مفاتني و يرتدّ شوقي للشطحات، حتى استيقظت هذه المرة على صهيل الأحصنة و صليل الصوارم و قد حمي وطيس المعركة الأخيرة.
سمعت صراخ أحدهم و تهليل نفر من الملثمين الزرق عند انبعاثي ، لم يصدق البعض ما تراه مقلتاه و بقي البعض الآخر مفغور الفاه . إذ كيف لعجوز قد شارفت على العقد الثالث بعد المائة أن تنفخ في صدرها روح الحياة وقد أصابت جذعها عوالي الرماح.
سمعت إمرأة تشكر " تزيرى" لانه يحمي الكاهنة ويدعم صارمها ضد كل جبّار ، فعلمت أني حملت أسطورتي و دخلت التاريخ من بوابة الحديد و الأبطال .
واسترجعت ذاكرتي حديث صاحب السعادة عن المعامع اذ ذكر أن التلب فيها بمقدار و إن أحرزنا كسب السبق. و لم أفهم حينها سرّ إقتتال أبناء حواء، أليسوا من نفس النسل و العصب ؟ لو قاتلوا أبنائي و إبليس لزال العجب فحواء عدوة مذ تخليت عن مجد آدمها و أدبرت عن قدر دبرّ عن كثب
و قد لاحظت أن أبناء آدم غالبا ما يتهمون فلذات أكبادي زورا و بهتانا وهم أقبح عملاً و أشد إهذارا و أقل وقوفا على الذات إذ كثيرا ما يلقي الأغرار اللّوم على الأبرار تسويغا لقبح ما اقترفوا من أعمال ولعمري إني أعلم علم اليقين بأحوال هؤلاء فأنا خير العالمين بكل أفّاك أثيم.
ها أنا على هذه الأرض السمراء لأروي عطشها بدماء الأعداء : قصة تعاد و تتكرر عن شعب دافع عن أرض لا يملك ثراها إلا في الأوهام . فتموت الشعوب و لا ينتهي الوهم.
أمسكت بسيفي و خضت معاركي و قتلت من أبناء الأغراب القادمين من شرق لا ماء فيه و لا كلأ. و دحرجت الرؤوس الحليقة ووضعتها على أسنة الرماح حتى نام يمام افريقيا في عش من دماء. سيدون التاريخ ملحمة غريبة عن البربرية و أروي أنا أقصوصة مبهمة لا أساس لها من الصحة أو ربما أستيقظ بعد سنون لأكتب " لارواية" في بلاد بعيدة بين دروس ألقيها في جامعة و فنجان قهوة مع صديق أو صديقة.
خضبت وجهي بماء أسود يفوح منه الكبريت الزكي ، كبريت ليليث و مضجعها، بعد أن أحرقت الزرع و الحصاد اذ دمرت افريقيا حتى لا تكون مرتعا لمن يطمع في شيء من رزق الأهالي . كحلت عيني برماد جثث الأوغاد ، ثم اتخذت من الأسرى ولدا عرفت فيه الطفل الذي حبوت معه في الخلود اذ كان اسمه خالد بن يزيد .
لم يكن صياد الوحوش راضيا عن ذلك فكان يرنو إليه كما ترنو الأوابد الى فرائسها ، بيد أنه لم يقترب منه و لم يحاول الفتك به إجلالا لي و تقديرا لسنين عمري . لقد صارت هذه السنون تشق وجهي و تجعل منه خريطة لأوطان عدة ذات حدود صغيرة و إن كبرت . أضعفت الخطوط جبهتي و جعلتني أرضا متفرقة فها هي دار الاسلام تحدّ دارا أخرى تكن لها العداء ثم تظهر على سحنتي شطوب أعمق و أوضح بقيت هاهنا ، أنظر إليها في مرآتي العجيبة و كان صاحب السعادة قبل دهر و بعض دهر قد علّمني الأسماء كلها فمنها سايكس بيكو و الرمال و لالة مغنية و النقطة ٢٣٣.

عدت لشطحاتي العشوائية ، إذ لم أستطع صبرا من دونها صبوحا و عشية . وقد ظن أغلبهم أني أعبد صنما و ما كنت وثنية. إنما كان الخشب يعطي لروائح العود و العنبر طابعا خاصا لا يفهمه إلا من تطوق أنفاسه للانقطاع في شطحة صوفية.
و كنت أمني النفس بالعودة الى مستقري في البرزخ بعد دحر بني أمية ، بنو حواء الشقيّة. فكانت قراءاتي ، بعد كل شطحة، في صحف لم تكتب تمنحني السكينة و الروية و تبارك مجدي جاعلة دواخلي دوما فتية و قد كان خالد معي و كذلك محاربي يقرؤون ما تيسر لهم . قصصت عليهم حكايات ألف ليلة و ليلة فأحب خالد شهرزاد و تخيلها عروسا ذكية . و حدثتهم عن كليلة و دمنة و بيدبا و دبشليم فلمعت عين الصياد و تمنى قنصهم في البرية. فكانت القصص تبعث فينا روحا أكثر حكمة و حصافة و كذا مرت السنون و نحن نتفكّه مما لم تسمع عنه بعد البشرية ، حتى طلب مني خالد أن أحدثه بخبر الرواية التي هاهنا اسرد فصرخت أنها " لا رواية " و أنها غير منهية . و سألني عن صاحب السعادة من هو ؟ كيف يبدو؟
و أين أنا منه ؟ فأبيت أن أجيب و كان أمرا مقضيا. فاستشاط غضبا و لم يفهم سرّ التقية . و كتب لبني أمية يعلمهم بدونو أجل " ديهيا"، و تفرق قبائلها البربرية . فزحف جيش النعمان و لم أحاربهم فحياة الكاهنة منذ الأزل في الأساطير محكية . و كانت النهاية عندما حزّ الرأس و في البئر وافت المنية . لا بقاء لمحاربي الأزلي من بعدي فهو يتنفس أنفاسي، و يخطو خطواتي لذا فقد حذا حذو البئر حتى دقّ عنقه و سقط في هوة لا قرار لها.

أما أنا فسأظهر بعد هذا ألف مرة و مرة و أكتب " لا رواياتي" بلا قلم و لا مدية بل صفحة بيضاء و مفاتيح آلية . و سأعمل على تشويه الوقائع المنسية حتى تتذكر البشرية...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى