عيدروس سالم الدياني - الصيــــاد.. قصة قصيرة

أَستندُ إلى الاريكة ، أَتصفحُ قنوات الأخبار -كالعادة سيئة _إلا أنني أَدمنتُها .
الباب يهتز!
طرق عنيف .. يحشو أذني ،بصراخه الخشن ، أَقفز مسرعاً إلى الباب ، لم تكد يدي تحرك مقبضهُ ، حتى اندفع الى الداخل بقوة.

أرى أمامي اربعة عساكر ، ببدل سوداء مخططة بلون أبيض ، وأسلحةٍ رشاشة سوداء.
اقتحموا غرفتي ، وبسرعة وضعوا يدي خلفي ، جعلوني أهرول أمامهم .
عندما وصلت الى القسم ، استجوبني الضابط بأسئلة كثيرة ، ثم سألني : من تعرف هنا في المدينة؟
لم يكن لي قريب في هذه المدينة ، عدا ذاك الماكث على الشاطئ ، يصطاد الأسماك.
على شاطئ بحر العرب ، يرمى بصنارة ، ويمكث طويلا ، دون أن يمسك بواحدةٍ من سمك البحر.
صاحب وجهٍ بشوش ، شارف على الخمسين ، ومازال يحتفظ ببريقٍ ، ونظارة تكتسي ملامحه.
حين يراك لأول مرة ستحكي تعابير وجهه انه يعرفك من سنين ، وستبتسم له دون تكلف ، سيرحب بك ، وربما يعانقك ، وحين يسألك من أين انت؟
فتقول من بلد كذا ، فيعرفها ، ويعرف اقاربك ، وربما حكى انه يعرفك لكن يبدو انك نسيت!!.
قابلته عصر هذا اليوم ،بمكان ما على الشاطئ، حين اتيته كانت الصنارة مازالت عالقةً بالبحر ، دون أن تهتدي للطعم سمكة ! .
عانقني بقوة وشممت عطره الرائع ، كان يبدو أنيقا جدا. يضع قبعة تشبه قبعات رعاة البقر ،بنية اللون ، تحجب الشمس عن عينيه.
-أخبرني الان ما أتى بك الى مدينتنا ؟
_لاشيء ،سوى أنني أردتُ ان أغير جو القرية بحقولها ، جبالها ، بآخرٍ فيه بنيان ، وبحر ، وسمك ، وبعض الضجيج.
لقد أخفيت عنه سبب مجيئي ،فقد سمعت عنه الكثير السيء،وخفت ان يحتال ويأخذ المال الذي سأجنيه من بيع الحبوب التي جلبتها للبيع هنا .
تجاذب معي اطراف الحديث ، وحين تكلم عن البحر ،كان يصفه كشاعر
- البحر كنز من الجمال ، وحين يغضب يثور وتضطرب امواجه ، يبدو لبعضهم انه يحمل المتناقضات ،الخير والشر ،الجمال والقبح ،الهدوء والضجيج !
أما انا فأراه كرجل هادئ جميل ،وغضبته وثورته ،هي ردة فعل ليس الا ..سكت قليلا ثم أردف :
ألا ترى انه يحمل الينا الاسماك دون مقابل ،ألا ترى أننا نأتى بهمومنا اليه فنرميها على صفحاته ،
ثم نعود الى بيوتنا فنراها قد عادت من جديد !! ،علها تبخرت كما يتبخر ماء البحر ثم ينزل علينا مطرا .
كان يتحدث وهو ينظر الى البحر ،ويديه تتحرك نحوه ،وكأنه يريد للبحر أن يسمع مايقول !، أما أنا فأُحدّث نفسي :” كيف لهذا الوجه الجميل ،والاسلوب الرائع ،والشخصية المهذبة ،كيف لهذا كله ان يكون تمثيل ومحاولة للاحتيال” ؟!!

أرادني أن أذهب الى منزله ،إلا أنني تحججت بشخص ينتظرني بالفندق ،عدت إلى الفندق على عجل ،فسحره كاد يسلبني قلبي ،وأنساق معه ،كأعز صديق لدي .
بعد تأمل لوهلة رأيت ان اتصل عليه ،ولم امكث طويلا في قسم مكافحة الارهاب ،الا وهو يدخل مرفوع الهامة ،
_حين تعجزون عن القبض عن المجرمين والمذنبين ،تعودون للقبض على المسالمين .
هذا الشاب قريبي وأنا اعرفه ،وأريد ان اعرف بأي تهمة هو هنا ؟.
كانت لهجته قوية جدا ،ليس فيها التماس ،وانما فيها ثورة غاضبة ،
حينها أجاب الضابط بأن الامر اشتباه فقط ،وحين ننهي اجراءاتنا ستأخذه معك .
كانوا قد جردوني من محفظتي وساعتي ،وهاتفي النقال ،وحتى قلمي ،وقبل أن ارحل قال هل اعادوا لك اشياءك ؟
قلت :لا
فدخل واتى بها وسلمني اياها . احسست بالامان بجواره ،وفتحت محفظتي وعددت نقودي ،فكانت كاملة ، فأعدتها الى جيبي ومضينا .
كانت قيادته للسيارة هادئة ، وفيروز تغني من القلب :
،”لما عالباب ياحبيبي ،نتودع …..”
…قال :أتحب فيروز
قلت أحب صوتها ،وسحر أنغامها .
وقف بي عند مطعم سمك بالقرب من الشاطئ ،
وعندما حاولت دفع الحساب ،رفض بشدة .
كانت هذه أول ليلة لي في المدينة ،وقد كانت حافلة جدا .
غدا سأذهب الى التاجر الذي بعت له الحبوب ،واعود قبل تبتلعني الامواج هنا ،أو أتوه في الزحام ،أو تلعنني فوهة هذا البركان الخامد على منذ عقود ،أو ربما امواج بحر العرب الهادئة تسحرني فلا اغادر شاطئها .

هذا ماقلته لنفسي ونحن نتناول العشاء .
_هل اعجبك المطعم ؟
_ نعم أعجبني ،المكان جدا جميل ،والأكل لذيذ للغاية .
هنا على الشاطئ تختلط رائحة السمك المشوي بنسيم البحر المنعش ،بعطر قريبي الودود جدا .
ادركت في قرارة نفسي ان الناس مجموعة وشاة ،يسعون لهدم بعضهم بعضا .لم يكن نصابا ولا محتالا !
إنه رجل ودود ٌ،ربما من ينشر شائعات نصبه مجرد حاقد او حاسد ،إنه يعطي ولا يأخذ ، يمنحك متعة الحديث معه ،متعة الامان برفقته !
باليوم التالي أخذنا النقود من التاجر ، واستسلمت لسحره ، فكنا نمضي لاصطياد السمك ، ونعود بلا سمك ،ثم نتعشى بمطعم على الشاطئ ، ثم نقضي باقي الليل في ملهى بجوار فندق فخم .
المتعة معه لم تنقض حتى نفقت كل نقودي وعدت إلى القرية . وحينها بدأت بسرد الاحاديث عن البحر ،وعن جمال البحر ، وفتنة عيون قابلها في الملهى ، وعن شخص يجلس على الشاطئ ، لايهتدي لصيد السمك بل يصطاد أقاربه ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى