علي محمود خضيّر - تفاحة خضراء

فيما نقضمُ اللّيلَ كتفاحة خضراء.. هل أحدثك عن الأُمّ؟ عن الضوءِ الخفيضِ في زاويةِ قلبي المثقوب كالينابيع. عن الليالي التي قضّيتها هناك، فارشاً أحشاءها كما أشاء؟
لكِنِّي لا اذكرُ شيئاً، مِنَ الصَّعبِ التذكّر على أيةِ حال، صعْب أن أعرِف كم مرّة ضَرَبْتُ كُلْيتها اليسرى وَخَضْخَضْتُ حصاتها الصغيرة. كم مرّة ضايقْتُ رئتيها فاستيقظتْ كعمودٍ روماني تحرس ظلامي. لا أعرِفُ كمْ شعرتُ بِالغربةِ. لا أعرِف كمْ شعرتُ بِالوحدةِ. لا أعرِف إِن كانت الأحراش التي تدفـأتُها طيبةً وهادئة أم خانقةً وملّحة. لا أعرِف غير أني انتظرتُ في سديمها تسعةَ أشهرٍ لأنزِل في يومِ عيد، في صالةٍ عاديّةٍ إلا من صراخها والآمها المفزعة، إلا من صراخي الذي شقَّ قروحاً في سقفِ الصالةِ المرتفع، إلا مِنْ بكاءٍ مرٍّ لا أذكُرُ سببهُ أيضاً.
ربما لأنَّ الضوء كانَ أكثر مما توقّعتُ
ربما لان الهواء كانَ أكثر مما تنفستُ
ربما لأني لم أشأ أن أولدَ
ربما حزناً ما كان يجعل هذا الصراخ منطقياً.
هذا ما قالوا،
أنا لا أتذكّرُ شيئاً الآن..
الأُمُّ التي تُشرِقُ عليها شمسٌ جديدة اليوم، الأُمُّ التي تنشطرُ أثنينِ فيضيع مكان قلبها، الأُمُّ التي يرطّبُ الحليب قمصانها البيض، ترجفُ الآن، ترتبكُ، تدرّبُ يديّها أنْ تصير مهداً، تجهدُ ليكون عفوياً كعينيها.
ترتّبُ الّليل الأوّل مِنْ حَولي، تنشُّ الذباب والضوء الساطع، تضعُ قرآنها تحت الفراش لئلا تأتي شياطيني باكراً. تتدبّرُ فوانيس أيامي اللاحقة، تتدبّرُ الساعات الأولى، اللمسة الأولى، القبلة، الرائحة..
تُدبّرني،
تَصيرُني.
أفكّرُ في تلك الأُمّ الآن..
في الأخاديدِ التي حفرتْها التقاويم بيدِ الغفلةِ، في الجسدِ المتهالكِ والوقفةِ الواهنةِ، في الحروقِ الصغيرةِ مِنْ زيتِ مطبخها الفائر، في السكاكينِ التي توسدتْ راحتيها أكثر ما توسدتْها يداي، في القدورِ التي تعتني بها، سجادة الصلاة، عطورها وبخور المساءات، مرآتها المكسورة، رعدات خوفها وغيرتها، سقمها ومعناه، ألوانها بِداخلي، لغتها التي كانت،
أفكّرُ في قاموسِ الأيامِ،
فيما عرفتهُ سابقاً وما لم أعرِفه.
الّليلُ نصفُ تفاحةٍ خضراء مهدورة للفجر، الّليل يلتبس عليّ الآن..يصير نهاراً أو سديم وقت، أفكّرُ في كلِّ الأمهاتِ، سريعات المرور ومُعَمَّرات الظلّ، مَنْ تملكْنَ أطفالهنَّ ومَنْ يشتري أمومتهنَّ العابرون.
أنتَ أيضاً في داخلكَ أمٌّ كالتي تخفقُ في داخلي، في قلبِ كلّ منا أمّ كاملة يا صاحبي، أمّ نفرّطُ فيها لنكون بيادق حروب، فابحثْ عن أمّكَ فيكَ،
في ظلامِ روحِك الخاسرة.
ماذا بعد؟ يقول صاحبي
-لم تعرف بشأن دفاتري التي رسمْتُ فيها أمّهات كثيرات: مَنْ أحببتُ ومَنْ فشلتُ في ذلك فتجاهلتُ الأمر
رسمتُهنَّ يصنعنَ الصباح بِأصابعِ عازفِ العود
رسمتُهنَّ يصبغنَ رأسي بالأبد
رسمتُهنَّ لا يبصقنَ
رسمتُهنَّ مِنْ دونِ سكاكين نار لأننا نبولُ بغيرِ إرادتنا
رسمتُهنُّ لا يُمزقّنَ كِتابَ القِراءةِ دون سبب
رسمتُهنَّ مِنْ دونِ حبالٍ
ومِنْ غيرِ أعمدةٍ خشبيةٍ تصلح للحبس.
كنتُ رسّاماً جيّداً
وكانت
الريح
عمياء.

يقول صاحبي :
لا معنى لهذا الآن.
جائعٌ أنا، فهاتِ ما في ثلاجتك.

_ ليسَ سِوى تفاحةٍ خضراء.

من مجموعة "الحياة بالنيابة" الصادرة مؤخراً في بيروت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى