المكي الهمامي - فِي قَبْوٍ يُسَمَّى.. وَطَنًا..!

(إلى أشرف العربيّ..)


ظَلاَمٌ كَثيفٌ،
هُنَا وَهُنَاكَ،
كَأَنَّ المَدَى مُقْفَلٌ..!
وَكَأَنَّا نُقِيمُ عَلَى حَافَةِ المُنْتَهَى..!
وَلِأَنَّ القَصَائِدَ أَكْثَرُ صِدْقًا،
وَأَعْمَقُ مِنْ شَهْقَةٍ فِي الضُّلُوعِ،
رَأَيْنَاهُ مُخْتَلِفًا عَنْ سِوَاهُ؛ لَمَحْنَاهُ،
وَسْطَ المَسَالِكِ، مُحْتَفِلاً بِقَصِيدَتِهِ..
كَانَ يَرْقُبُ لَيْلَ القَدَامَةِ،
مُبْتَسِمًا؛ وَيَمُدُّ إِلَيْهِ يَدَا..
يَتَأَمَّلُهُ بِسَمَاحَةِ شَيْخٍ.. يُدَاعِبُهُ
بِبَرَاءَةِ طِفْلٍ.. يَسِيرُ بِهِ، مُفْرَدَا،
عَابِرًا مَهْمَهًا بَلْقَعًا،
مُمْعِنًا فِي التَّمَاسْ..
وَيَمْضِي إِلَى مَوتِهِ المُشْتَهَى،
دُونَ أَدْنَى احْتِرَاسْ..


هُوَ الآنَ،
فِي سِجْنِهِ المُتَوَحِّشِ،
يَكْتُبُ أَبْيَاتَهُ، صَامِدَا...
وَيُطَرِّزُهَا بِخُطوطٍ مُجَوْهَرَةٍ
{هَكَذَا، كَانَ يَنْسُجُ
شَرْنَقَةً لِلْغِيَابِ، وَئِيدَا...}
وَإِذْ يَتَقَدَّمُ أَبْعَدَ فِي حِبْرِهِ،
نَاصِعًا كَالنَّدَى،
رَافِعًا شَارَةَ النَّصْرِ فِي وَجْهِ قَاتِلِه؛
يَتَشَكَّلُ رَسْمٌ عَلَى هِيْئةِ الطَّيْرِ
{أَوْ مَا يُمَاثِلُهُ}
وَيُرَفْرِفُ مُنْدَفِعًا،
مُوغِلاً فِي ازْرِقَاقِ الأَقَاصْ..


يَدَاهُ
تَهُشَّانِ بِالكَلِمَاتِ العَمَاءَ،
تُضِيئَانِ ظُلْمَةَ جَلاَّدِهِ
{فِي اسْتِطَاعَتِهِ، دَائِمًا، أَنْ يَكُونَ
رَحِيمًا بِأَعْدَائِهِ فِي الوُجُودِ..!}
وَعَيْنَاهُ مُشْرَعَتَانِ
عَلَى مَطَرٍ قَادِمٍ مِنْ بَعِيدِ..
وَأَنْفَاسُهُ تَتَعَنْقَدُ،
كَالغَيْمِ،
صَادِقَةَ البَوْحِ،
مُؤْمِنَةً بِالخَلاَصْ..


يُفَتِّشُ في قَبْوِهِ المُتَحَجِّرِ
عَنْ وَطَنٍ لِلْحَقِيقةِ في زَمَنٍ الزَّيْفِ،
عَنْ فِكْرَةِ العَدْلِ وَسْطَ الدَّيَاجِيرِ،
عَنْ ثَقْبِ حُرِّيَّةٍ تَمْرُقُ الرُّوحُ مِنْهُ
إِلَى اللهِ.. تَشْكُو إِليْهِ...
وَعَنْ خَيْطِ نُورٍ شَفِيفٍ لَطِيفٍ
رَهِيفٍ تَسَلَّلَ مِنْ خَلَلٍ في الجِدَارِ..
وَيَسْأَلُ: هَلْ فِي اسْتِطاعَةِ حُلْمٍ
يُعَرِّشُ فِي شَجَرِ الكَلِمَاتِ ابْتِكَارُ النَّهَارِ،
وَتَحْرِيرُ أُغْنِيَةٍ حُلْوَةٍ
مِنْ فَمٍ أَدْرَدٍ
لاَ يُحِبُّ الجِنَاسْ..؟!


مَزِيدًا مِنَ الحُلْمِ أَبْعَدَ،
أَعْمَقَ، يَتَّسِعُ القَبْوُ،
تَنْهَارُ جُدْرَانُهُ، حَجَرًا حَجَرَا..
تَتَسَاقَطُ أَضْغَانُهُ، خِنْجَرًا خِنْجَرَا..
وَمَزِيدًا،
مِنَ الكَلِمَاتِ الَّتِي لاَ تُقَالُ،
يُطِلُّ عَلَى أُفْقِهِ وَجْهُ لُورْكَا،
بَهِيًّا كَعَادَتِهِ،
سَاطِعًا كَشُمُوسِ إِرَادَتِهِ،
عَبِقًا كَالشَّذَا فِي رَبِيعِ الحَوَاسّْ..


وَأَشْرَفُ مُبْتَسِمٌ،
لاَ تُفَارِقُهُ الاِبْتِسَامَةُ،
مُبْتَسِمٌ ضِدَّ عَصْرِ الدَّنَاءَةِ،
مُبْتَسِمٌ، دَائِمًا، دَائِمَا..!
وَسَعِيدٌ بِمَوْتٍ يُكَثِّفُ سِرَّ القَصِيدَةِ
في شكلِ أيقونَةٍ أو يُطَيِّرُهُ
كَالفَرَاشَةِ صَاعِدَةً..!

فِي سَمَاءِ مَسَرَّتِهِ قَمَرٌ..
فِي الحُرُوفِ الَّتِي تَتَجَمْهَرُ
حَوْلَ أَصَابِعِهِ، تَتَخَبَّأُ عُصْفُورَةٌ..
فِي طُفُولَتِهِ تَرْقُدُ الأَبَدِيَّةُ،
غَارِقَةً فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ
وَمَغْمُورَةً بِالهَنَاءَةِ..
مَنْ قَالَ إِنَّ الفَتَى مُلْحِدٌ،
لَمْ يَرَ الطِّفْلَ فِي وَجْهِهِ..!!
مَنْ يُحَاصِرُهُ بِالحِرَابِ
يُصَدِّقُ شَيْخَ القِصَاصْ..!


هُوَ الوَلَدُ الفَذُّ،
فِي دَرْبِهِ نَجْمَةٌ لاَ تَنَامُ هَوًى..
قَلْبُهُ عُشْبَةٌ فِي الفَلاَ..
سَرْمَدٌ غَامِضٌ صَوْتُهُ المُتَلَأْلِئُ
فِي الصَّمْتِ، كَالأُقْحُوَانَةِ..
لاَ عُمْرَ أَطْوَلُ مِنْ عُمْرِهِ، أَمَلاَ،
وَهْوَ يُطْلِقُ سِرْبَ الخَطَاطِيفِ
فِي وَجْهِ سَجَّانِهِ البَرْبَرِيِّ؛
وَيَرْمِي بِأَشْوَاقِهِ،
قُبَلاً،
قُبَلاَ،
فِي اتَّجَاهِ الرَّصَاصْ..!



☆ شعر/ المكّي الهمّامي ☆

(ملاحظة: هذا النّصّ جزء من قصيدة مطوّلة بعنوان: "وَحِيدًا أَمَامَ المَوْتِ، وَجْهًا لِوَجْهٍ..!")

(منزل الجميل/ تونس)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى