حفيظة قاره بيبان - قهــوة إكسبريـس

قريبا موعدنا.
الساعة الثانية، أوج الضوء، قلب النهار.
يموج شارع الحبيب بورقيبة بالألوان، صفو يوم شتائي ضاحك.
تدعوني المحبة. أختار المكان الأجمل، الأكثر رفاهة، رغم فقري، هدية لحبيب عائد. بهو النزل المرخم الفسيح. المجالس متباعدة. الهدوء رائق. الجلاس قلّة. والفضاء الرحب لا تلوثه كثافة الدخان.
جلسة مريحة على أحد مقاعده المبطنة بالمخمل الأزرق تهدئ نبض الوجع في جسدي الراكض طوال الصباح... لأجله. جلسة يعود فيها العهد القديم، ينسج ما انقطع.

بعد حين، حين يجلس، سترتمي خصلة غيفارا على جبينه الوضاح، وعينا غيفارا الليليتين العميقتين وعد بالتحدي القادم. هكذا أعلن هاتفه الأخير.

الأرض تنهض فيّ بكل انتظاراتها. تفتح زهرها. تنشر عبق المحبة حوالي، للآحبة القادمين. تدعوني، لأجلس تماما في مواجهة الباب. أرمي أكياسي ومعطفي وهاتفي الجوال على الطاولة الواطئة والمقعد الخالي المحاذي.
وأستسلم لانتظاري. أفتح صحيفتي وأسرح بانتباه كاذب في أركانها.
* * *
بعد أقل من ساعة، سننهض، يده في يدي. أدعوه إلى الغذاء في مطعم الشرق القريب. على صيامي بقيت في انتظار الغذاء معه، على أرض محايدة لم تعرف خصوماتنا السابقة. وفي مقهى سيدة المدن، سنترشف الشاي معا، ونخط الدرب إلى أحلام ومشاريع قادمة، واعدة بالفرح القادم.
قضيت الصباح، أركض بين الشوارع والأروقة، من أجله، علّي أهديه مفاجأة ميلاد جديد.
هاتفي الجوال ينظرإلي.. ينتظر الرنين.. يترقب صوته... كما وعد قبل المجيء.
الساعة الثالثة!... موعدنا!

أتعلق بالباب المفتوح.. بالمارة على الرصيف.. ببلورة هاتفي.. الثالثة والربع!.. ألاحظ أن شحن جوّالي يكاد ينتهي.. قد يدعوني، وقد خوى هاتفي من قدرته على الجواب..
قد يغيب عنه عنوان اخترت للقائنا ودعوت إليه..
قد ينسى العنوان أو يسهو عن الموعد وهو البارع في النسيان.

أنتبه إلى مضيّف الاستقبال المنشرح الأسارير. أمضي إليه مستنجدة، آملة العثور على بطارية شحن لهاتفي. سينتهي الشحن وصوته السائل سيغيب.
يعتذر الشاب الأنيق آسفا. لقد استعيرت البطارية الموجودة من أحد النزلاء. يشير إليّ بمركز الاتصال القريب بنهج قرطاج. أهم بجمع أشيائي المبعثرة حين ترتفع رنات العود من جوالي. يأتي الصوت سريعا وينقطع:
- رجاءً اطلبيني!.. نفذت بطاقتي!

انطلق مسرعة، أقطع الشارع إلى مركز الاتصال محافظة على ما بقي في روح هاتفي. تتطاير الأسئلة القلقة معي، مع انتظاري المشتاق لقبلة اللقاء.

في الغرفة البلورية المغلقة، يهمهم صوته في السماعة قبل أن يختفي:
- سأتأخر!.. عمل أكيد يدعوني، وأوراق يجب نسخها الآن في الجامعة!.. بعد ساعة نلتقي!
أبلع خيبة المكالمة الخاطفة. أسكت جوع نهار انتظاري وأعود إلى مجلسي.
.. لقد اُحتلّ المكان!

أمضي إلى مجلس أبعد. ألقي حوائجي على المائدة الواطئة والمقعد المحاذي وأتهالك على المقعد مع انتظاري وكتابي المفتوح وإعيائي المتسلق جسدي.

ولكن، حين يهلّ، بفـتوته المشرقة ووسامته الآسرة التي تعلق به نظرات كل الصبايا، سيمضي التعب. سيخجل الشتاء من الربيع المطلّ. سينسحب.

... تتقدم خطاه. ينحني عليّ. يقبل وجنتيّ. يمد يده. أشدّ يده الدافئة. أتأمل الوجه الحبيب. تفيض الحيوية والعنفوان فيّ. نمضي معا، متشابكي الأصابع إلى المطعم الشرقي الذي اخترت منذ الصباح. ننسى خلافاتنا الماضية، في الموطن البعيد المنسيّ الذي هجر. أغفر له كل الخطايا.. كل الذنوب.. أتأمله يأكل بشهية وجوع قد يأخذه لحظات. ولكن ستلتقي نظراتنا، لنبتسم معا، ونتصالح على أرض محايدة، أرض سيدة المدن. في عيني غيفارا الليليتين، سألقى كل وعود الولادة الجديدة، لنضحك من جديد، كطفلين صغيرين، في أرض بكر لم تعرف حلكة العصر الحديث.

أترك أوراقي وكتابي. وأتلهى بترشف قهوتي والتفرج على العالم حوالي. تسرع تونس لغروبها. تتسارع وتتكثـف حركة المرور خلف الجدار البلوري العازل.. تهب نسمة صديقة مفاجئة. تنشرح أسارير وجهي المرهقة في مرآة العمود القريب. أقف للصديقة المخرجة القادمة مع رفيقها. سلام وحديث عابر قصير، يضع فاصلة لانتظاري. أتركها بعدها مع رفيقها تراجع سيناريو جديدا.
وأعود وحيدة إلى مجلس انتظاري، من جديد.
* * *
الساعة الرابعة والربع.
يعود نظري معلقا إلى الباب. الساعة المضافة لانتظاري انتهت. ومرآة الجوال حاضنة الأحلام والأسرار، مترقبة، يكاد يعلن شحنها الغياب. والبوابة البلورية تنغلق وتنفتح. يتوالى الوافدون مع اقتراب الغروب. تعلو الأصوات الغامضة. يعود بينها صوت الرجل الغريب الصباحي وأنا أدافع عن الغائب المدان.
- ما لحبـيـبـك دوما ضد التيار؟

... ... ...

ضد التيار أمسكني!
المحبة القاهرة، المذيبة الجليد، الصاهدة المعدن، تشدني، صائمة، صامدة من الفجر إلى الغروب، منتظرة مسمرّة إلى مقعدي بين الغرباء اللامبالين، بصبر أيوب
وتونس، تركض غير آبهة، خلف الجدار البلوري خارج البهو الفسيح، تركض لغروبها. تصفرّ ألوانها المتداخلة. تلاحق يومها الهارب من الزمن.

بحزم، يقف لها الحاجب عند باب الدخول، حارسا يقظا، مقـيّما شكل الداخلين، محاكما الهيئات المريبة، عساها تطفئ أنوار النزل الناعمة، وتلوث رهافة النزلاء.
... ترى، كيف سيقيّم شكل حبيبي القادم، إذا جاء معلنا على كل قانون تحديه؟

يقبل الغروب. يقبل الرماد. ضباب يغلف نصف استدارة الأرض المنهكة بضجيج أبناء آدم، خائن جنته.
المترو الملون بالأخضر والبرتقالي يعبر الزاوية البلورية بأجساده الملتحمة... يعبر قلقي... المترو الأخضر يليه، باكتظاظه الخانق، يدوس أوجاعي الملتصقة بظهر المقعد المخملي.
يجر الحاجب حقائب القادمين. يغيبون خلف ركني ويتركون الأرضية اللامعة سائلة، تترقب أقدام الحبيب القادم.
... متى يصل؟
الساعة أضحت ساعتين... متى نلتقي؟ .. متى أرحل؟ وأرمي حذائي وأتعاب يومي، وأسرار بحثى عن طوق نجاة لحبيب لا مبال بالنجاة، توّاق لأسر الهجر، وقطع الجسور؟!

أحاول تناسي انتظاري وأقرّر:

لأنْسَ مكاني.. لأنس انتظاري، وأشغلني بالتفرج على القادمين!
ولكن المكان يزداد حضورا، وسلاسله وأساوره وقلائده تشدني إلى فضائه. تخترقني ذبذباته، تحيلني موجة من موجات البحر المتلاطم الضاج بأسئلة مدينة يخترقها الليل القادم.
مع ذلك، لأنس زماني!.. فقد يأتي ويعود الليل القادم إشراقة سماء بيضاء.
ولكن أصابعي ترتجف بخيبة ساعات انتظاري. ووجهي المرهق في المرآة خلف فنجاني المرفوع يعلن انتصار الزمن وهزيمتي.

خط وحيد باق في الزاوية. والشحن في الهاتف يحتضر. رنوت إلى قاع فنجاني.. رفعته عن صحينه. ترشفت شفتاي بقايا قهوتي.. ساعتان مرتا.. ثلاث.. فرغ الفنجان. بردت الثمالة. أظلم الغروب.

عند رأسي، وقف النادل صامتا. وقتها، كانت المحبة الهادرة الغامضة تغلق حقائبها. تترك فنجانها للثمالة. تلقي على الصحين الصغير ثمنها. لا يتجاوز ثمن قهوة "إكسبريس" باردة.

وحيدة، مضت المحبة في زحام المساء التونسي، مع هبوب الريح الواخزة. كان صدى صوته لا يزال يردد، قبل أن يفرغ الشحن وتغيب في بلورة الهاتف كل الرموز:
- هذا المساء، لن يأتي القطار!... معذرة أماه! ..يمكنك الرحيـــل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى