حسن السالمي - العنقاء

قبل أن تظهر في حياتي كنت شخصا آخر.. أقرب ما أكون إلى حيوان أليف.. ليس لي من همّ إلاّ لقمة أسدّ بها رمقي، أو شربة ماء أطفئ بها عطشي، أو بعض أحلام صغيرة تافهة تراودني بين الحين والحين.. إذا نمت، نمت ملأ شواردي، وإذا نهضت، انطلقت انطلاقة الجنّ، لا ألوي إلاّ على اللّهو واللّعب والرّكض في حرّ الدنيا أو في صرّها.. إذا ضحكت، ضحكت كثيرا، وإذا بكيت، بكيت طويلا.. قلبي غِضٌّ طريّ مرهف، تدخل عليه السّعادة من الأبواب جميعها.. قد تدخل عليه من صيد الفراش، أو قتل الخنفس، أو تكويم الرّمل، أو رمي الحجارة على النّاس والشّجر والدّواب !
لكن لمجرّد أن بدأت تظهر في حياتي، بدأت أنقلب على سيرتي، وأخرج تدريجيّا عن أُلَفِي وعاداتي القديمة.. لم أعد أهنأ باللّقمة.. ولا عادت شربة الماء هي مبلغ طموحي وأحلامي.. صار مستقبلي في قادم الأيّام، يملأ عنّي كلّ وقتي، يكدّر قلبي، ويغشاني منه القلق والترقّب.. إذا نمت، نمت متقطّع النّوم، متقطّع الأحلام، تغزوني الكوابيس.. منذ ذلك الحين وأحلامي تسبقني إلى المستقبل فأراها بعيدة قصيّة كنجوم الثريّا، أسامقها بقامتي، وأتطاول إليها بهامتي، فلا أقبض إلاّ على أوهام وحسرات..
الحقيقة أبغضها كل هذا البغض، ليس لأنّي اقتحمت بها عقبة حياة مُرّة قاسية فحسب.. بل لأنّها أيضا تبعث في نفسي النُّفرة والاستياء.. فضلا عن وقاحتها وخلوّ مشاعرها من الكرامة.. تظلّ ملتصقة بي، لا تفارقني ولا تغادرني.. أطردها في الصّباح فتعود إليّ مساءً.. وأطردها في المساء فتعود إليّ صباحا.. أقسو عليها أكثر الأحيان، وأعبس في وجهها، وأنتف شعرها، لكنّها تظلّ على ودّها وإخلاصها.. لا تنتقل إلى غيري، ولا تبدلني، ولو أعطيت مداد الأرض ذهبا.. الحقيقة لا أدري سببا لهذه الكراهية.. ربمّا لأنها كانت عدوّة السّلطان، ينكّل بها أينما وجدها، ويذيق صاحبها شرّ العذاب.. أو ربّما، لأنّ الخشية من عواقب صُحبتها مازالت قائمة في نفسي.. وحُقّ لي ذلك، إذ الرّزق بها مقطوع، وإن ثقلت موازيني بشهائد العلم كلّها !!
منذ أشهر أو يزيد، تركتها على هواها مللا وسأما، ترافقني في حِلّي وترحالي.. تشاركني مأكلي ومشربي ومغسلي وكلّ شأن من شؤوني.. باتت يافعة، تتفجّر فيها الحياة بكلّ ألقها وسحرها.. من يراها معي، يستغرب انسجامنا معا ويظنّ أنّها لي وأنا لها ما بقينا.. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي رأيت فيه إحدى بنات جنسها على فضائيّة من تلك التي تنوب عن السّماء، وتتحدّث باسمها.. طويلة بيضاء متعجرفة، قاسية الملامح تبعث على الرّعب.. صمتت هي وتكلّم صاحبها.. لكنّها كانت ترتعش بارتعاشة شفتيه.. تكلّم ويا ليته ما تكلّم.. شدّد وغلّظ، وحرّم كلّ شيء، حتّى كاد يُحرّم تنفّس الهواء.. قال في جملة ما قال: “تخلّف المسلمون حين تخلّوا عن فريضة الجهاد.. وإنّ السّلف الصّالح دانت لهم الدّنيا حين كانوا يسبون ويغنمون، ويتّخذون من أرض الكفر مصدرا لرزقهم ورغدهم “..
أو كأنّي به يقول.. السّائحة الجميلة التي تزور بلادنا، هي مستباحة الدّم والعرض لكفرها.. يجوز فيها السّبي والغنيمة !
بعد ساعة لا أكثر، كنت أمام المرآة.. تأمّلت رفيقتي طويلا، وأنا أداعب شعرها الفاحم.. وكأنّي بها استشعرت خطرا ما، فارتجفت بين أصابعي.. قلت ساخرا:
– سيّدتي.. آن أن تزولي من حياتي !
خُيّل إلّي أنّها امتلأت رعبا وهي تقول:
– أأهون عليك ؟ !
– بعد الذي رأيت من أصحاب بنات جنسك، فأنت شبهة !
وكأنّي بها تقول في غضب، وقد زال عنها الخوف:
– لا تحمّلني وبنات جنسي أوزار أبناء آدم، إذ لا يسعنا إلا أن نطيعكم.. من أحسن فلنفسه.. ومن أثِم فعليه إثمه.
– أكثرتِ الجدال.. وزوالك ليس منه بدّ !
ودون أن أسمع منها الجديد، جذبت موسى حادة.. تحسّست شفرتها برؤوس أناملي، قبل أن أعمد إلى رغوة الصّابون فأغرقها فيها.. خُيّل لي أنّي أسمع لها غرغرة كغرغرة الغرقى وهي تقول:
– أيّها الأحمق.. أتحسبني لن أعود !
– أعلم أنّك كطائر العنقاء.. تنهضين من رمادك.. ولكن أنا لك بالمرصاد ما دمت حيّا.
صمتت كأنها تستسلم لقضائي، في الوقت الذي بدأت فيه الموسى تفعل فعلها، فتساّقط قطعا في الحوض، قبل أن يدفعها الماء إلى جوف الأرض…
بعد حين كان وجهي من دونها مضيئا كفلقة القمر !


hasan-salemi.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى