عبد الرحمان التواتي - الأريكة

شعرت بالملل ! و الملل وباء منتشر هذه الأيام كالأنفلونزا . و لا علاج لهذا الوباء حسب العارفين . و لكنّ علاماته معروفة ، يمكن أن يشخصها النطاسيّ الحاذق بمجرّد طرح عدد من الأسئلة على الشخص الذي تظهر عليه الأعراض و الاستماع إلى أجوبته .
قيل إنّ هذه الأسئلة موجودة منذ سالف العصور في كتب الطبّ ، و خاصّة فيما تركه جالينوس منذ ما يزيد على ألفي عام . لم تفقد نجاعتها . و ما زال النياطسة يستخدمونها إلى اليوم .
قصدت نطاسيّ الخاص ـ و الخاص لا تعني انّه لا يعالج من الخلق غيري ، و لكن تعني أنّي لا أعالج عند غيره ـ و بمجرّد أن أخبرته بما أشكو منه فتح درجا على يمين مكتبه و سحب منه سفرا قديما ، نفض عنه الغبار ، و طفق يعرض عليّ الأسئلة ، و أنا أجيب بكلّ صدق ، إذ ليس لديّ ما أخفيه ، و ليس فيما أقوله ما يدعو إلى الخجل ، أو الخوف :
ـ ممّ تشكو ؟
ـ لا أشكو من شيء بعينه ، أي لا أجد في الحقيقة ألما في أيّ عضو من أعضائي .
ـ هل تأكل جيّدا ؟
ـ نعم ، إذا توفّر الطعام .
ـ هل تحبّ أكلا معيّنا ؟
ـ لا . أنا آكل فقط لأعيش ، و لا يهمّني نوع الطعام ، أو جودته . المهمّ عندي أن تقبله معدتي ، و ألاّ يسبب لي الغثيان أو القيء .
ـ هل تحب الحديث في مواضيع معيّنة ؟
ـ لا ليس لديّ ميل إلى موضوع دون آخر . فأنا أخوض في كلّ حديث أيّا كان موضوعه. كلّما وجدت شخصين أو أكثر يخوضون في موضوع أقحمت نفسي بينهم ، و تدخّلت ، لا لأنّني مقتنع بجدوى تدخلاتي ، و لكن لأتحدّث فقط . المهمّ أن أتحدّث .
ـ هل تقبل على القراءة في مجال معيّن ؟
ـ أنا أقرأ كلّ ما يقع بين يديّ دون رغبة في القراءة . لا أختار ما أقرأ ، ثمّ إنّني أقرأ دون شهيّة ، و هو ما سبّب لي في أحيان كثيرة عسر هضم فكريّ ، فأصاب بضرب من الإمساك ، حتّى اضطرّ إلى استعمال عقاقير خاصّة تساعدني على التخلّص ممّا في فكريّ . و قد يتحوّل الأمر إلى إسهال ، فأفقد نسبا كبيرة من السوائل و الأملاح الفكريّة .
ـ هل انتميت يوما ما إلى حزب سياسيّ ، أو تنظيم من أيّ نوع كان ؟ دعني أطرح عليك السؤال بطريقة أخرى . هل لديك ميول سياسية ؟
ـ فهمت ما ترمي إليه أيها الطبيب ، لا حاجة إلى مزيد الشرح . أنا أشعر منذ زمن بعيد بأنّ مثل هذه القضايا لم تعد تستهويني . لقد انشغلت بها زمنا ، و لكنّي لم انتظم في أي اتجاه ، أو تيّار سياسيّ معيّن . كنت كمن يتلمّس لنفسه طريقا بين مسارب شتّى ، و مشارب متعدّدة ، حتّى يقتنع بالسير في أحدها . لكنّني لم أصل إلى قناعة . فأصبحت كلّ النظريات عندي سيان ، لا يسار ، و لا يمين ، و لا وسط . لا تطرّف ، و لا اعتدال . أصبحت كلّها لها طعم واحد . بل كلّها لا طعم لها ، كـ "الرّجيم صان سال " ( الحمية بدون ملح ) الذي يوصف لمن يعانون من ضغط الدم . سمعت بعضهم يقول : إنّه لا يستساغ في البداية ، لكنّك تنتهي بعد مدّة إلى التأقلم معه ، و تتعوّد عليه حتّى تصبح لا تطيق غيره .
ـ هل تختار مكان جلوسك ، أو بتعبير آخر ، هل لديك نوع معيّن من الأماكن تفضّل الجلوس فيه ، حانات ممثلا ، أو حدائق ، أو مكتبات عمومية ، هل تفضّل مثلا الجلوس وحيدا على صخرة جانب البحر ؟ أو الجلوس في المقاهي الصاخبة صحبة أصدقائك ؟ هل تروقك المدينة ، أم تفضّل الريف ؟
ـ لا شيء من كلّ ذلك . لا ميل عندي إلى مكان دون آخر . فأنا لا أجد فرقا بين الصحراء و الخميلة ، بين أرصفة مدينة روما و كثبان الرمال في صحراء دوز ، بين الوادي و الجبل أو بين التلّ و السّهل . لا فرق عندي بين التحليق في الفضاء و الجوس في الدهاليز .
ـ هل لديك ميل إلى لون محدّد ؟ أي هل تختار مثلا لون قميصك ، أو سراويلك ، أو ربطة عنقك ؟ هل ترتاح إلى الأزرق مثلا أم إلى الأحمر أم إلى الأخضر أم إلى الورديّ ؟
ـ اسمع أيها النطاسي ، لقد تعلّمت منذ حداثة سنّي أنّ اللون جزء من الشخصيّة ، حتّى إنّ بعض علماء النفس يستعينون به لتحديد طبيعة الفرد ، و تصنيفها حسب تصنيفاتهم المختلفة ، كالسوداوية ، أو الكئيبة ، أو المرحة ، أو المستهترة ، أو الجادّة ، أو المتملّكة ، أو المطيعة ، أو الرّافضة ، أو القويّة ، أو الضعيفة ، أو الثابتة ، أو المتحوّلة ، أو الخاملة ، أو الطّموح ، أو المتفائلة ، أو المتشائمة ، أو البسيطة ، أو المعقّدة ، أو السّويّة ، أو المختلّة . تعلّمت أيضا أنّهم اقتبسوا صفات من الحيوان لتحديدها ، فهذه كلابية ، و تلك ثعلبيّة ، و الأخرى نعامية ـ نسبة إلى النعامة طبعا ـ إلخ ... إلخ ... و ربّما كنت فيما مضى أملك شخصية من هذه الشخصيات القابلة للتصنيف ، لكنّني اليوم لا فرق عندي بين أن أكسو جلدي بلون أسود أو أبيض أو أزرق أو أحمر أو بلون ورديّ . بل إنّني لم أعد أرى بعض الألوان . أي أنّني غدوت كبعض الحيوانات التي يقال ـ و الله أعلم ـ إنّها لا ترى إلاّ ألوانا معيّنة . فأنا إن شئت " دلتوني " طبق اللفظة الدخيلة .
ـ لقد فهمت حالتك ، و شخّصت مرضك ، و إن كان في الحقيقة لا يُعتبر مرضا بالمعنى الحقيقي ، و إنّما هو أقرب إلى العيب الخلقي الموروث . قد تكون ورثته عن سلالتك من جهة أبيك أو من جهة أمّك أو من جهتهما معا .
ـ حسنا أيّها النطاسي ، هلاّ أخبرتني بما أعاني منه ، أو بالأحرى هلاّ وصفت لي هذا العيب الخلقي الذي ورثته عن سلالتي .
ـ إنّك مصاب بالملل .
ـ و هل لهذا المرض علاج أو دواء تصفه لي يخفّف من أعراضه ؟
ـ لن أصف لك دواء عسير الوجود تتعب في الحصول عليه فتزداد حالتك تعكّرا ، و قد يستعصي شفاؤك بعد ذلك . لكنّي سأرشدك إلى علاج بسيط يمكنك الحصول عليه عند أوّل عشاب يصادفك .
ـ شكرا أيها الحكيم هذا دليل مهارتك . و ما هذا الدواء ؟
ـ أن تسحق قدرا من الرداءة في وعاء من الضجر ، ثم تضيف عليه ملعقة من سائل القلق ، و تخلط الجميع بما قدره درهم من الماليخوليا اللزجة . و تستعمل ذلك لمدة ثلاثة أيام ، فإذا فرغت فتناول قرصا واحدا من السآمة بكأس من روح الانقباض قبل النوم مباشرة لمدّة ثلاثة أيام أخرى ، و ستشعر بتحسّن منذ الساعات الأولى .
و دّعت النطاسي شاكرا و خرجت أبحث عن عشّاب .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى